الاثنين، 25 يوليو 2016

صديقتي ذات الشّعر الطويل؛ هاينريش بول


ترجمة عن الألمانية: تاج الدين محمد




إنه لأمرٌ يبعث على الإستغراب: قبل خمس دقائق بالضبط  من بداية المداهمة، إعتراني شعورٌ بعدم امان؛ إذ إنني نظرت حولي بحذرٍ وذهبت بمحازاة نهر الراين صوب محطة القطارات. ولم أكن مستغرباً عندما رأيت عربة (الجيب) المحملة بأفراد البوليس ذوو القبعات الحمراء وهي تندفع إلى داخل الحي و قد قاموا بتطويق منازل الحي ثم بدأوا بالتفتيش. كل شيء حدث بسرعة غريبة. لقد كنت أقف خارج المكان المطوق فقمت بإشعال سيجارتي بهدوء. كل شيء أُنجز بهدوء.  قلت في نفسي: كم هو منظر سيئ كمية السجائر الملقى على ارض! وبصورة لا أرادية بدأت بإجراء عملية حسابية صغيرةكم من المال ملقى هناك على ارض! وبسرعة كانت العربة ممتلئة بالذين تم إلقاء القبض عليهم. لقد كان (فرانز) من بينهم. أومأ لي من على البعد على نحوٍ يائس وكأنه يود أن يقول: هذا قدري! فتلفت أحد أفراد البوليس ليراني، لكنني غادرت. ببطء... غاية في البطء. "يا إلهي لماذا لا يأخذونني معهم!"  لم أعد راغباً في الذّهاب إلى غرفتي فواصلت طريقي صوب محطة القطارات. بضربة من عصاتي قمت بإزاحة الحجر الصَّغير من على الطريق. لقد كانت الشّمس تشرق بدفئ ومن جهة الراين كانت تهب نسمة باردة و رقيقة.
في صالة انتظار أعطيتُ النادل (فريتز) المائتي سيجارة ووضعت نقودي في جيبي الخلفي، ان ليس لدي ما أبيعه سوى علبة واحدة خاصة بي. على الرغم من إزدحام المكان تمكنت من تدبير مقعد لنفسي وطلبتُ حساءاً وبعض الخبز. لكنني لمحت (فريتز) مجدداً وهو يغمز لي من على البعد إلا إنني لم أكن راغباً في الوقوف فهرع بالمجيء إلي في عجالة وكان يقف خلفه القصير( ماوسباخ) الحمال وقد بدا كلاهما متحمساً:
ـــ "هل انت بخير يا صاح!"  قال فريتز مهمهماً وغادر وهو يهز رأسه وترك مكانه للقصير (ماوسباخ) الذي لم يكن قادراً على إلتقاط أنفاسه وقال متلعثماً:
ـــ"يجب عليك أن تغادر... لقد قاموا بتفتيش غرفتك وعثروا على الكوكايين... يا صاح!"  لقد كاد أن يختنق فقمت بالتربيت على كتفه لأهدئه و ثم أعطيته عشرين مارك. وقلت له:
ــ "امر على ما يرام." فغادر مهرولاً ولكنني  تذكرت شيئاً فجاءة  فناديته:
ــ" أسمع يا هاينه هل بإمكانك أن تجد مكاناً آمناً لمعطفي و كتبي؟ نني سأعود في غضون أربعة عشر يوماً... يمكنك أن تأخذ اشياء اخرى لنفسك."
 فهز رأسه موافقاً. أنا أعرف أنه بالإمكان اعتماد عليه. إنه أمر سيئ فكرت مجدداً ثمان ألف مارك راحت سدىً ليس هناك مكان يَحسُ فيه المرء بالأمان. كانت هناك بضع نظرات مصوبة نحوي عندما جلست مرة أخرى و أمسكت بجيبي غير مبالٍ. ولكن أصوات الحشود بدأت تحاصرني، وأدركت أنه  لم يكن هناك مكان كنت فيه لوحدي مع أفكاري مثل هذا المكان المحاصر بالجموع في صالة انتظار.
أدركت فجأءة أن عينيي تمسحان الصالة تلقائياً دون أن تدركا شيئاً محدداً  فكانتا تتوقفان في نقطة محددة وكأنهما منجدبتان  لتلك النقطة بإملاءٍ مغنطيسي. في كل مرة حين تمسح عيناي الصالة بصورة عرضية كانت هناك نقطة ما تقفان عندها عيناي لثانية  قبل أن تنزلقا بعجلة منها. وكأنني إستيقظت للتو من نوم عميق ووجهت نظري بقصد إلى تلك النقطة. على بعد ثلاث طاولات مني لمحت فتاة شابة ترتدي معطفاً فاتح اللون و قلنسوة باللون الأصفر والبني على شعرها الاسود وقد كانت تقرأ صحيفة ما. لقد كان بامكاني رؤية جزء من جسمها: كتفيها المنحنيتين قليلاً إلى امام، جزءاً قليلاً من انفها و يديها النحيلتين الثابتتين. وقد كان بإمكاني أيضاً رؤية ساقيها الجمليتين، النحيلتين أجل ... و النظيفتين. لا أعرف كم من الوقت إستغرقت في تحديقي فيها ولكن من وقت خر كان بأمكاني رؤية وجهها البيضاوي النحيل عندما تقلب الصفحة. فقامت برفع رأسها فجاة ونظرت إليَّ لبرهة بعينيها الكبيرتين الرمادتين بجدية ولا مبالاة ومن ثم إستأنفت القراءة، كانت لتلك النظرة المقتضبة وقعها علي.
أخذتُ أحدق فيها مباشرة بأناءة وقلب مرتجف حتى فرغت من قراءة الصحيفة. إنحنت بذراعيها على الطاولة وبإيماءة مترددة و غريبة أخذت رشفة من الجعة، حينها تمكنتُ من رؤية وجهها كاملاً، لقد كانت شاحبة جداً ونحيلة ذات فم صغير وأنف محدب كأنوف النبلاء... عيناها... تلكم العينان الكبيرتان . عينان شاحبتان وجادتان. كان  شعرها اسود ذا الخصل الطويلة كأنه ستارة حزن أُسدلت على كتفيها. لا أدري كم من الوقت استغرقت في التحديق فيها...عشرون دقيقة، ساعة أم أكثر من ذلك؟! ولكن في كل مرة تقع عينها في وجهي كانت تصير نظرتها أكثر أضطراباً أكثر إقتضاباً، إلا إنها لم تبدُ عليها مظاهراستياء الذي تظهرعادة في وجوه الفتيات في مثل هذه المواقف. أجل إضطراب وخوف...
ويحي لم أكن أنوي إطلاقاً أن أجعلها تضطرب أو تخاف لكنني لم إستطع عن أشيح ببصري عنها.
أخيراً 
نهضتْ على نحوٍ مفاجئ ووضعت مخلاتها على كتفها وغادرت صالة انتظار بسرعة، فقمت أنا بتعقبعها. دون أن تلتفت للخلف قامت بصعود السلالم المؤدية إلى بوابة صعود القطار. لكنني أبقيت عيني عليها، أبقيتها في مرمى نظري ولكنني فقدتها للحظة عندما كنت أشتري تذكرة الصعود للقطار. لقد كانت تتقدمني بمسافة جيدة، فما كان علي إلا ان وضعت عصاتي تحت ذراعي و هرولت بعض الشيء. كنت على وشك أن أفقدها في الممر التحتي المظلم المؤدي إلى رصيف القطار. لكنني وجدتها متكئة على أحدى بقايا مظلات الرصيف المحطمة. لم تلتفت خلفها قط.
كانت هناك رياح باردة تهب من جهة الراين صوب محطة القطار. حل المساء و كان هناك الكثير من الناس يقفون بأمتعهم، حقائب الظهر، حقائب اليد، صناديق و التوتر باد على محياهم. وإستداروا برؤوسهم على نحو مفزع صوب الإتجاه الذي تهب منه الرياح وهم يرتجفون، وأمامهم كانت قبة السماء ذات اللون ازرق الغامق تتأوه و هي مثقوبة بالتشبيك الحديدي للصالة.
لقد  كنت أعرج جيئة و ذهاباً وأحياناً أحدق في الوجوه لأتاكد من وجود الفتاة لكنها كانت دوماً هناك بساقيها الممددتين المثبتتين على بقايا الحائط المحطم شاخصة ببصرها على حفرة مسطحة وسوداء التى كان يختفي فيها قضيب السكة عن الأنظار. و أخيراً عاد القطار إلى المحطة على نحو بطيء، وعندما كنت أحدق في ماكينة القطار صعدت الفتاة القطار المتحرك وأختفت في المقصورة فأختفت من أنظاري لعدة دقائق في خضم حزم البشر الذين كانوا يتدافعون في طريقهم إلى المقصورة، لكنه لم يمضي الكثير من الوقت حتى لمحت القبعة الصفراء في عربة القطار الأخيرة. صعدت إلى الداخل و جلست في المقعد المقابل لها مباشرة فكنا بالقرب الذي كادت أن تتلامس فيه ركبنا، حينما كانت تنظر إلي في هدوء وصرامة، كانت تقطب حاجبيها فقط، عندها تمكنت من إدراك امر من عينيها الرماديتين: لقد كانت تعي أنني كنت خلفها طوال الوقت. مرة أخرى تعلقت عيناي بوجهها على نحوٍ بائس فى حين الذي كان القطار يتحرك في مساءٍ آفل. لم تنبس شفتاي بكلمة. لقد كانت الحقول تغرق و أصبحت القرى محجوبة  تدريجياُ بفعل حلول الليل. شعرت بالبرد. فقلت في نفسي: إين سأنام الليلة... متى ستهدأ اوضاع مجدداً. أوه يا ليتني أستطيع أن أواري وجهي في هذا الشعر اسود، لا شيء غير ذلك... قمت بإشعال سيجارة، عندها رمقتني بنظرة عابرة لكنها كانت نظرة متأهبة تأهباً غريبة بناحية  صندوق السجائر. بمجرد أن مددت لها الصندوق قائلاً بصوتٍ أجش:  "تفضلي!"  أحسست وكأن قلبي يقفز إلى الخارج من خلال حنجرتي، فترددت لبرهة من الثانية، وعلى الرغم من الظلام رأيت وجهها يحمر خجلاً في تلك اللحظة. فقامت بأخذ سيجارة واحدة وكانت تسحب الدخان بعمق ونهم حينما كانت تدخن:
 ــ "أنت كريمٌ جداً": لقد كان صوتها مبحوحاً و هشاً. وعندما  طرق بعدها إلى مسامعنا صوت مراقب القطار في المقصورة المجاورة كأن أن هناك  أمر قد حدث  فأرتمى كلانا على ركنه و تظاهرنا بالنوم. ولكنني على الرغم من ذلك كنت أنظرإليها من خلال جفني وهي تضحك. كنت أراقب مراقب التذاكر الذي كان معه مصباح ساطع وهو يتحقق من التذاكر. بعد لحظات سقط الضوء على وجهي مباشرة فشعرت من الطريقة تمايل الضوء أن مراقب التذاكر كان متردداً. ثم سقط الضوء على وجهها، يا لها من شاحبة، يا لحزن سطح جبينها الناصع!
ثمة إمرأة بدينة كانت تجلس بجانبي سحبت مراقب التذاكر من كم قميصه وهمست له بشيء ما في أذنه، الذي فهمته من هذا الشيء: سجائر أمريكي... لا تذاكر. فقام مراقب التذاكر بلكزي  بغضب في ضلعي. لقد كان هناك صمت يسود المقصورة فسألتها بهدوء عن وجهتها، فتفوهت بإسم مدينة ما. قمت بشراء تذكرتين إلى ذلك المكان مع دفع الغرامة. لقد كان صمت المسافرين اخرين جليدي و إذدرائي عندما غادر مراقب التذاكر. ولكن صوتها كان غريباً، دافئاً وساخراً بالطبع عندما سألتني: هل تود الذهاب إلى هناك كذلك؟
ــ أوه، يمكنني الذهاب بسهولة لدي بعض اصدقاء هناك لكنني لا أمتلك مكان أقامة دائمة هناك.
ــ" حسناً"
 هذا ما قالته فقط و إستلقت للخلف في الركن، في هذا الظلام كان بإمكاني أن أرى وجهها أحياناً، كلما تسرب ضوء إلى الداخل. لقد حل الظلام عندما ترجلنا من القطار. لقد كان المكان مظلم و دافيء. وعندما خرجنا من محطة القطارات، لقد كانت المدينة الصغيرة تغط في نوم عميق والبيوت الصغيرة كانت تتنفس بهدوءٍ وأمان تحت اشجار الوديعةسوف أدلك : قلت على نحوٍ متحمس. المكان مظلم جداً ليس بإمكانك أن تري اي شيء لكنها توقفت فجأءة أسفل أحد مصابيح الطريق ورمقتني بتحديقة طويلة بعينيها الواسعتين وقالت:
ــ "بشرط أن أعرف إلى اين سأذهب."
 لقد كان وجهها يتحرك ببطئ كأنه غطاء رأس هبت عليه رياح. كلا، لم نتبادل القبلات. لقد خرجنا من المدينة ومضينا إلى كومٍ من القش. ليس لدي أصدقاء هنا في الحقيقة فأنا غريب في هذه المدينة الساكنة كما في اماكن الأخرى. عندما أصبح البرد قارساً في الصباح زحفت بناحيتها فقامت بتغطيتي بجزءٍ من سترتها الرقيقة. هكذا دفئنا أنفسنا بأنفاسنا و دمائنا وصرنا منذ ذلك الحين سوياً حتى الآن.