الثلاثاء، 15 نوفمبر 2016

قصة قصيرة: دعني أوعدك، مورلي كالاقهان

ترجمة: تاج الدين محمد














ظلت أليس تعود إلى النافذة، تقف وأنفها ملتصق بزجاجها. كانت تراقب المطر وهو يتساقط والرصيف وهو يلمع تحت مصابيح الشارع. بدت بفستانها الأسود الكريبي وياقتها البيضاء الكبيرة الشبيهة بياقة راهبة وشعرها المشدود بإحكام للخلف من وجهها المتوتر- تقريبًا لطيفة على نحو وقح.
بدء الجليد يتساقط في وقت سابق من هذا المساء، من ثم راحت تمطر رذاذًا، أما الآن أصبح المطر كأنه مطر متجمد.إذ تقف أليس عند النافذة تمنت لو تُغطَى الارضية بطبقةٍ رقيقة من الجليد، أن تظل صفحة بيضاء غير مشوشة حتى يأتي جورجي بخط آثار اقدامه الوحيد واضعًا علامات مساره إلى بيتها. على الرغم من أنها كانت ترى بملئ عينيها، إلا أنها بدأت تحلم بمساء بارد على نحو قارس، وبجورجي مرتديًا شاله الأحمر بوجهه المرتعش يندفع إلى الداخل، يفرك يديه وذراعيه مفتوحتين. بيد أن الشفشاف راح يدفع الريح بهدوء على زجاج النافذة. فكرت وهي تتنهد: إنه لن يأتي في مثل هذا الطقس. لكنه كان سيأتي لولا الطقس لا استطيع حقًا أن أتوقع مجيئه الليلة. خطت مبتعدة عن النافذة وجلست.
أخذ قلبها في الخفقان ببطيء وصعوبة بداخلها فكانت بالكاد تستطيع الحراك، لأن شخص ما يطرق الباب. صرخت وهي تفتح الباب:
ــ "جورجي، فتاي العزيز، أنا سعيدة جدًا بمجيئك". ومدت يدها لتعينه على خلع معطفه المبلل جدًا.
بدا طويلًا بمعطفه المحزم بخفة وكان له وجه ناعم ودائري لن يشيخ أبدًا. جعلت الريح وجهه مبللًا ومتوهجًا، لكنه كان متجهمًا لأنه لم يكن مرتاحًا في ملابسه الرطبة. أبعد شعره الجميل المتموج عن عينيه وقال:
ــ "إنها ليست ليلة مناسبة لزيارة". قام بالجلوس؛ كان صامتًا ومحرجًا بعض الشيء من حماستها، نظر حول الغرفة وكما لو كان يفكر إنه كان مخطىءً في المجيء ولم يتوقع أن يكون مرتاحًا للغاية. "إذا لم يتساقط الجليد كان الجو سيكون رديئًا في الخارج في مثل هذه الليلة. ربما لم تفكري في مجيئي".
"وودت لو تجيء ولأنني وددت ذلك، فكرت أنك ستأتي على أرجح". قالت بصراحة.
بدا أن أيام كثيرة قد مرت وهي لوحدها مع جورجي فهي تود الآن أن تمسك يده بيديها وتقبله. لكنها أحست بإنها في غاية الخجل. في السنة الماضية كانت تعرف إنه كان ينتظرها بلهفة لتقبله.
"أليس" قال على نحو مباغت.
" ما الذي يضايقك يا جورجي، لتكون عابس الوجه هكذا؟
"ما الأمر الذي تريدينني فيه؟ لقد قلتي أنك تريدين التحدث عن شيء محدد".
" يا له من فضول، أظن أنك ستجلس هناك عاجزًا عن الاستقرار حتى تكتشف الأمر". قالت مجيبة.
كانت تعلم بقلقه، لكنها كانت تتظاهر لنفسها على أنه كان نافذ الصبر وفضولي. لذا كان وجهها الشاحب الجميل ينبض بإبتهاج دافئ سري عندما ذهبت عبر الغرفة إلى الصندوق ذو الأدراج وأخرجت صندوقًا كرتونيًا وأعطته أياه بعد أن قامت بإنحناءة بناتية:
ــ "أتمنى أن تعجبك. يا حبيبي" قالت بإستحياء.
"ما هذا، ما المغزى من هذا". قال جورجي وهو يفك الصندوق ويخرج الغطاء الورقي. عندما علم إنها أعطته شيئًا أصبح محرجًا محبطًا للغاية ليتفوه بأي شيء، لكنه لم يكن يريد جرحها، فحاول أن يكون متقدًا بالحماس: "يا إلهي، أنظري لهذا! سترة عنق بيضاء، لو أرتديتها سأبدو كممثل سينمائي في وقت فراغه، هل ينبغي علي إرتداءه الآن يا ألـ. " وهو يبتسم لها إبتسامة عريضة خلع معطفه وأرتدى السترة البيضاء فوق قميصه: هل أبدو أنيقًا، هلا أتيتي بمرآءة يا ألـ؟
امسكت أليس بالمرآءة امامه تنظر إليه بذات التعبير المرهف للحب الخالص في كل مرة، ثمة أحساس بداخلها، قناعة لم تجرؤ بالكاد أن تحلم بها. السترة ذات العنق الطويل جعلت رأسه يبدو كـرأس (فون)*.
"إنه رائع يا ألـ". لكنه لم يكن بوسعه الإستمرار في ارضائها بحماسه، أصبح محرجًا أكثر: "لا ينبغي عليكي أن تعطيني هذا، يا ألـ لم أكن أتوقع أي شيء من هذا القبيل عندما اتصلتي بي لأنك قلتي أنك بحاجة إلي".
"اليوم عيد ميلادك، أليس كذلك يا جورجي؟ "
"تخيلي أنك تتذكرين ذلك. لكننك لا ينبغي عليكي أن تزعجي نفسك بهدية عيد ميلادي الآن".
"حسبت أن السترة ستعجبك. وجدته مساء اليوم. كنت أعرف أنها تليق بك".
"ولكن ما المغزي من أن تعطيني أي شيء، يا الـ؟ " وراح إحساسه بالإحراج والغرابة يزداد.
"هل تظن أنني كنت بحاجة لذلك؟ "
"لا ينبغي عليكي تبديد مالك بسببي".
"أتظن أنني لدي أمر أقوم به". قالت لتغيظه.
"ما المغزى من ذلك، يا الـ؟ "
"وجدت شيئًا آخر، شيئًا كنت تريده بصورة ماسة. هل تتذكره؟ حاول أن تخمن! "
"لا يمكنني ان اتخيل". لكن وجهه إحمرّ فإبتسم بغرابة لأنه أُجبرعلى هذا النحو على تذكر زمن كان يحس بعدم الراحة عندما يتذكره الآن.
كان يضحك بصوت مبحوح يبرز لها أسنانه الصغيرة المتساوية، لأنها كانت سعيدة لتمكنها من الصمود أمامه وإغاظته كما كانت تفعل من قبل. كانت تتحرك ببطيء نحو الصندوق ذو الأدراج، أخرجت في هذه المرة صندوق ساعة جلدي صغير. وقالت:
"تفضل! "
"ما هذا، أريني إياه! " لم يكن بمستطاعه تحمل كونه فضوليًا. قام من مكانه. لكنه عندما أمسك بالساعة في يده، اضطر على هز رأسه لإخفاء إحساسه بالرضا.
"إنه أمر مضحك الطريقة التي تعرفين بها كم كنت دومًا أريد مثل هذا الشيء، يا الـ". طوال حياته كان يود أن يحصل على ساعة يد مثل هذه، لكنه لم يكن يتوقع إنه بمستطاعه شراءها، لذلك كان سعيدًا الآن فإبتسم بإخلاص.
ولكن بعد لحظة وضع الساعة على المنضدة بحزم، وكان محرجًا ليتكلم. خطا نحو جدران وكان يصفر. عندما ما كان يقف عند النافدة عرفت إنها كان مضطربًا: أنت فتاة عظيمة، يا الـ. لا أعرف شخصًا مثلك". بعد أن توقف أضاف: "ألن يتوقف المطر؟ على ان أن أنصرف".
"أنت لن تذهب الآن يا جورجي، أليس كذلك؟ "
"بلا، لدي ميعاد مع أحدهم. لابد أنه في إنتظاري الآن".
"لا تذهب يا جورجي، أرجوك لا تفعل". قالت ذلك وأمسكت بكم المعطف الذي أخذه جورجي من على الكرسي. لقد كان مستحيًا من أن يذهب، ولا سيما إذا رفع الساعة من على المنضدة، ولكنه أحس أن بقاءه يعني بداية كل شيء من جديد. لم يعلم ما الذي يفعله حيال الساعة. لذا مد يده بتردد ورفع الساعة. كان يعلم أنها تراه.
ــ "إذن أنت تأتي هكذا وتذهب فحسب".
ــ "عليّ الذهاب".
"هل لديك فتاة أخرى"؟
"كلا، لا أريد واحدة أخرى".
"وفوق ذلك، لن تبقى معى لبرهة من الوقت"؟
"لقد إنتهى الأمر، يا ألـ، لا أدرى ما بكِ. أتصلتي بي وكنت تريدينني لأزورك للحظات".
"ليس عسيرًا عليك أنك تحب النظر الى الساعة أكثر من النظر إلي". قالت بنكد.
"خذي حسنًا، لو أنك لا تريدنني أن آخذ الساعة". وبإرتياح، وضع الساعة مجددًا على المنضدة وإبتسم.
حدقت إلى صندوق الساعة للحظة، كادت أن تعمى من فرط الإحباط، كانت تمقت إبتسامته المريحة، ثم صرخت: " أنت تحاول إهانتي فحسب. أبعده عن نظري". أرجحت كفها عبر المنضدة وضربت صندوق الساعة فهوى بالأرض وإرتطمت الساعة بالحائط، فتهشم الزجاج. محاولة ألا تجهش بالبكاء أحكمت قبضتي يديها وحملقت في وجهه. لكنه لم ينظر إليها حتى. بفم فاغر ومتدلٍ كان ينظر بلهفة إلى الساعة. لانه أدرك كم كان بحاجة إليها الآن يراها تتهشم على الجدران. وعندما رفع بصره نحوها، كانت عيناه الزرقاوتان بريئتان بإخلاص إحباطه التام.
"جي، ألـ ’" هذا كل ما قاله.
بدأت تفقد السيطرة على غضبها، أحست بحجم الأحباط الذي كان فيه. فشعرت بالعجز: "لم يكن ينبغي علي أن أفعل ذلك يا جورجي"
"لقد كان أمرًا جنونيًا أن تفعلي ذلك. لقد كانت تحفة. لمَ فعلت ذلك".
"لا أدري لماذا". جثت على ركبتيها وأخذت تجهش بالبكاء.
"ربما لم لم تتهشم بالكامل". قالت متلعثمة وهى تتحرك على ركبتيها وتلتقط قطع الزجاج بعناية. كانت تمسك بقطع الزجاج بيدها لكن عيناها تطرفان لذا لم يكن بوسعها رؤيتها. راحت تفكر ’كان أمرًا جنونيًا أن افعل ذلك، إنه غير مجدي. ليس بوسعي أنا أجعله يعود إلي. لماذا يقف هناك هكذا؟ لماذا لا يتحرك؟ ’ في نهاية الأمر رفعت بصرها ونظرت إلى ذقنه الناعم الدائري أعلى عنق السترة البيضاء، فكانت عينيها العابستين تلمعان من الدموع. عندما نظر إليها دون أن يتفوه بكلمة أو يتحرك، بدا أن كل شيء قد أختلف. كان ينظر كليهما بيأس بائس إلى قطع الزجاج التي كانت في يدها. في تلك اللحظة عندما كان ينظران، بدءا يتشاركان أحساس عام ومرير بخيبة الأمل جعلت جورجي يصمت صمتًا بالغًا، ويقترب منها: "لا بأس، يا ألـ". قال برقة مرتبكة: "رجاءًا أنهضي! "
"كلا، أبعد عني. أتركني وشأني! "
"ينبغي عليكي النهوض من هنا ليس بوسعي الوقوف هناك وأنت هنا".
"أوه، أنا أعرف أنني شريرة وغيورة. أتمني أن يهزني شخص ما ويجرحني، أنا قطة صغيرة".
"كلا، أنت لست كذلك، من الذي يجرؤ على هزك، أرجوكي أنهضي". قال وهو يضع يده على كتفها.
"قل أنك ستبقى يا جورجي". قالت وهي تمسك بيده، الجو دافيء بالداخل ومذر بالخارج، أصغ لصوت الرياح فحسب، هل تسمعه؟ سوف أحضر لك شيئًا تأكله. لا تريد الذهاب أليس كذلك؟ "
"ليس اكثر سوءًا حينما أتيت". بيد أن رقته المفاجئة إزاءها جعلته يشعر بالإضطراب. لقد كان يعرف أليس جيدًا منذ زمن طويل، أحد فتياته اللائي متأكد من أنه يمكنه ان يهجرها حيث يشاء، لكنه أحس أنه لم ينظر إليها كما ينبغي، كأنه لم يرها من قبل. لم يتعرف عليها. راح دفيء حبها يرعبه. بدا عيناها العابستان، ووجها الشاحب البيضاوي قريبان جدًا منه حتى إنه مد يده بتردد ليلمسها ويتحسس كل الكائن المتوهج تحت فستانها. ولكن الإرتعاش الحاد بداخله جعله يحبس أنفاسه ويدمر كل ثقته القديمة. قال متلعثمًا: "جي ألـ، لم افهمك جيدًا أبدًا، ليس بهذه الطريقة، لا أريد الذهاب، انظري كم أريد البقاء! "
"جورجي أسمعني! سوف أحضر لك تلك الساعة أو سوف اشتري لك واحدة جديدة، سأقوم بالإدخار من أجل ذلك. أو سأشتري لك أي شيئًا آخر تريده" قالت بلهفة.
"لا تفكري في الأمر! أحس بأني مثل متشرد" قال بخجل.
"لكنني أود ان أفعل ذلك بشدة، ومتشوقة جدًا للقيام بذلك. بوسع كلانا التشوق لذلك؛ ارجوك دعني أوعدك بذلك.
كانت لاتزال رابضة على السجادة؛ حدق في وجهه العابس الجميل أعلى ياقتها البيضاء الشبيهة بياقة الراهبات وعينيها المتضرعتين: "تبدين جميلة في هذه اللحظة، يا ألـ. تبدين كشيء جامح بصراحة".
مأسورة بالسعادة إبتسمت. ومن أعماقها كانت تتوق أن تعطيه المزيد.وفكرت، لو كان هناك المزيد لكان بوسعها منحه. ليتها تمنحه كل شيء ولا تترك لنفسها أي شيء.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*فون: إله الحقول والقطعان عند الرومان