الأربعاء، 29 أبريل 2020

قصيدتان لـ تراسي كـ. سميث؛ ترجمة: تاج الدين محمد



















والدة إينشتاين

هل كان صَامتاً لِبعض الوقت
أم مُبللاً بالدموعِ؟
هل كان يرفعُ يديه إلى أذنيه، ليتمكن من الصراخ؟
هل كان يأكل بقبضتي يديه فحسب؟ هل كان يأكل كما لو أن
شيئاً ما بداخله لن يشبع أبداً؟
هل كان يحني ظهره ويضرب بكعبيه على الأرض بمجرد
أنه  كان يبحث عن شيء ما؟
هل أحسست أنك عالقاً هناك، تريدُ الفكاك، الهروب، تريد
أن تُعاد إلى حيث إنبعثت روحاك المشوشتان؟
هل سبق أن أحسستُ كما لو أن شيئاً ما يرتقي بداخلك؟ شبح بشحوب ناري.
هل أحسست يوماً بالشفقة، لمن؟

خوضٌ في الماء

حيَّتني أحداهن.
قالت لي: أحبك.
إنها لا تعرفني، لكنني صدقتها.
ألمٌ مريعٌ مستجدٌ تسرب إلى صدري
كما في غرفة شدت ستائرها إلى الخلف
أحبُّك، أحبُّك، بينما هي تقول ذلك، كان هناك غرباء آخرون يمرون أسفل الصالة
أحس الجميع بغتة باِختراق أعمدة الضوء المتدفق
أحبُّك طوال الحفل، في كل صفقة كف
في كل ضربة على الأرض.
أحبُّك في سلاسل حديد صدئة 
أُرغم أحدهم على جرها حتي أرخى الحب قبضتها
لتغدو فارغة
في منتصف الحلقة
أحبُّك في الماء الذي
تظاهروا بخوضه
وهم يترنمون بأغنية الدم العميقة
التي ساقتنا إلى تلك الضفاف
لنترك هناك. أحبك
حيث تهرشُ الزوايا كل الحناجر، تتنكب
عبور عجاج الرمل الدوار
على خيوط الضوء تلك.
كل ما ندركه الآن، كان بإمكاننا إحساسه،
تعلمنا التسلق، أيتها الأدغال، أيها الكلاب
أيتها الشجرة، أيتها الصبية، أركضي
لقد مضى الكثير من الخارقين
يا إلهي، يا إلهي، يإلهي
أهذا الحُب هو ما وعدتنا به من مشقة؟ 

الأحد، 19 أبريل 2020

البقاء في عالمين في آنٍ واحد: فيدريكو غارسيا لوركا والدويندي


تراسي ك. سميث

ترجمة: تاج الدين محمد 














نَحنُ نقرأ القصائدَ لأنها تُغيَّرنا، ودوافعنا لكتابتها تَدورُ حول الحقيقة نفسها. القصيدة الجيَّدة تتحدثُ إليَّ من مَوضعٍ ينتمي إليَّنا- ذلك التَأرجحُ المُخاتل للذات الذي يُمكن أن يَسمه البعض بالروحِ، النَّفس أو اللاوعي- نؤمن بوجوده، لأننا نَحسُّ بعملهِ، لكننا نعجزُعن الإفصاح عن متى وكيف ولِمَ يَعمل من الأساس. بالتَّأكيد، نحنُ كشعراء اكتشفْ معظمنا دُروباً لإطلاقِ العنانٍ، كافية لتشجيع أي شيء من شأنه إرسال الأسئلة والكَلمات والإتيان بها  من ذلك الفَضاء. وأفضل القراءُ يدركون أن ذلك المَوضع هو ما سَتمضِي إليه القصائدُ،عندما ترتطم بنا بقوة، وتعْلمنا، وتصل الدِّيار.
أطلق الشَّاعر الإسباني فيدريكو غارسيا لوركا على حارس ذلك المكان "دويندي"*  شيطان، جني، مشاغب، حارس اللغز، الجذور المثبتة في الوحل التي يَعرفها الجَّميع ولكنهم يتجاهلونها. بخلافِ آلهة الشّعر أو الملاك، التي/ الذي توجد/يوجد ما وراء أو ما فوق الشاعر. يَغطُّ الدويندي في نومٍ عميق بداخلِ الشَّاعر ويدعوه إلى إيقاظه ومُصارعته وغالباً ما تكون التَّكلفة فادحة. كانت النّقطة المَركزية لإحالةِ لوركا  للتوسع في مفهوم الدويندي هي  تقاليد الغجر المتعلقة بـ"الأغنية العميقة" السابقة للفلامنجو. قاد ارتباطه الوثيق بالتقاليد الأمريكية الشَّعبية لمُوسيقى الجاز والبلوز والروحانيات إبان إقامته في نيويورك في الفترة بين 1939-1940 إلى تطوير وشحذ نظريته حول "الأصوات القاتمة" وعلاقتها بالحياة والفن. في محاضرته الشهيرة: "نظرية ولعبة الدويندي" التي قدمها لأول مرة في الأرجنتين عام 1933، عَمد على تَعضيد العلاقة بين "الدويندي" والشاعر.
أنا مولعة بمفهوم الـ دويندي لأنه يقدم تصوراً لا يُفترض أن  قصائدنا  مجرد أشياء نخلقها بغرض إرضاء أو إبهار  قارئ ما فحسب، أو قل  تلقينه، بل نكتب القصائد للخوض في كفاحٍ محفوفٍ بالمخاطر بيد أنه ضروري لنعيش داخل ذواتنا على نحوٍ أكثر اكتمالاً. ذواتنا الحقيقية التي بالكاد ندركها. حينئئذ يومِئُ الدويندي واعداً بمنح شيءٍ حديث الخلق على غرار المعجزة. بعدها يغمز الدويندي  موعزاً ببدء لعبة الهجوم التمويهي والمراوغة، الاندفاع والصَّد، الهرش والتَّملص. ويُلتفت إلى الوراء، ليوشك على الاختفاء تماماً، ليتجسد مرة أخرى وبعناقٍ عنيف يُطيح بك أرضاً ويُوشك القضاء عليك. ولن تحصل على معجزتك، إلا إذا كان بمقدورك حل شفرة موسيقى المعركة، ومستعداً لركوب خطر تلوِ آخر. بتعبيرٍ آخر، القدرة على مكابدة المشاق. بالنسبة للشاعر، تُعتبر هذه النجاة بمثابة المشي كلمة تلو الأخرى نحو عتبة خلقك. عليك استخدام أدواتك التي أحضرتها معك ولكن حتماً بطرقٍ  مُختلفةٍ ومحفوفةٍ بالمخاطر.
إذا كان كل هذا حقيقياً، وأظن أنه كذلك، فأن هذا الكفاح ليس مجرد أن تكتب قصائد ذات صياغة جيدة ومدهشة فحسب، بل بقدر ما هي القدرة على البقاء في عالمين في آنٍ واحد: العالم الذي نراه ( قوامه البشر، والمناخ والوقائع الجامدة). عالم بعجائبه و خيباته، هو الذي ساقنا إلى الصفحة ابتداءً؛ والعالم خارج وداخل هذا العالم، ذلك الذي نحن بصدد محاولة حل شفرته وتأكيده بنظرةٍ خاطفةٍ تلوِ أخرى. إذ أن البقاء في العالم السَّابق يَستند على التوازن، المنظور، التدريب، سعة معرفة وحنكة. وبإمكان الشَّاعر الاجتياز بتلك الأشياء لوحدها، وبإمكان العديدين فعل ذلك، فبعض الكبرياء لا يُؤذي. ولكن لأي شخصٍ مقتنع تماماً بـ "الدويندي"، إن العالم اللاحق هو ما يُهم أكثر. عالم، الذي يتفوق فيه الجُّنون والزُّهد على المَعْقول، حيث المهارة فعالة فقط بقدرِ ما تضيفه من إقدامٍ ورشاقة للحدس.
من النَّاحية العملية، إن هذا الواقع المزدوج يتجسد للشاعر في شيءٍ غاية في البساطة: وحدها الموهبة  تمضي بعيداً. فهي ستقودنا فقط  إلى المدخل الذي يقيم فيها المغزى من الكتابة  أو الإستمرار في الكتابة . تقودك الموهبة إلى هناك وترفع يدك لمطرقة الباب. وبعدها، ما يسحبك إلى الداخل ويبقيك على قيد الحَّياة هي الضَّرورة فقط. ضرورة الإجابة عن الأسئلة غير المُصاغة. الحاجة إلى صدى  من أقاصي الذات النائية. الحاجة إلى إيقاف الزمن لاِكتناه المبهم، للإيمان  بالماهية والذات والكيفية. الحاجة إلى نوع من السحر- أو كما يسمها لوركا بالمعجزة.
 ليس من قبيل المصادفة أن يتوصل لوركا إلى فهم الدويندي نتيجة لمشاهدة مغنيي الغجر الأندلسيين الذين كانت تتحدى أصواتهم المُّضطربة البراعة الكاملة. يقومُ الأفضل بينهم بسحب روح الكشف إلى الحجرة. وعندما يحدث ذلك، يكون الدويندي قد اُنتزع من عرينه انتزاعاً. والأغاني التي تجعل مثل هذا الكشف مُمكناً من الأساس هي أغان عن الكفاح دوماً. دوماً ما تكون نوعاً من غناء لحنٍ غرامي للصمود والمقاومة الذي يكابد لخلق وإثبات نجاحه.

وأيما شاعر/ة صادق/ة مع نفسه/ـا، سيـ/تدرك الكفاح المُجاور جداً للدافع من الكتابة. يمكن وصف كفاح الغجر بإعتباره كفاحاً من أجل الاستقرار ومقاومة  الذوبان في الثقافة أكبر وأكثر قوة. فهو حرفياً كفاح ضد التواري. قد لا ينطبق هذا كفاح تماماً على الشعراء في المجتمع الأمريكي، ولكن بطريقة أو أخرى هنالك صلة ما بمأزق الغجر. هناك عالمان يوجدان معاً، وهناك عالمٌ يندفع ضد الآخر، ويدَّعي أن الآخر ليس موجوداً أو ليس بحاجة إلى الوجود. ويحدث الدويندي ضجيجاً كأنه يقول بطريقة ما:  لن تظل كاملاً مالم تتحرك يوماً تلو آخر، مسودة تلو أخرى، قصيدة بعد أخرى ومن عالم إلى الذي يليه.

*لقراءة المزيد حول مفهوم الدويندي يرجى قراءة ترجمة محاضرة لوركا على الرابط أدناه: 


الاثنين، 1 مايو 2017

لستُ أدري ما يَعنيه ذلك؛ هاينريش هاينه

ترجمة: تاج الدين محمد
















   

لست أدري ماذا يعني
أَن أكون حَزيناً هكذا؛
 قِصةٌ خيالية من زمانٍ غابر
لاتريدُ أن تغادر ذهني.

الهواء عليلٌ ويسود الظلام
وهادئاً ينسابُ نهر الراين،
تتلألأ قمةُ الجبلِ
في أشعة الشمس الغاربة.

تجلسُ في الأعلى أجمل فتاة عذراء،
رائعة.
تَلمعُ حليها الذهبية،
تمشطُ شعرها الذهبي.

تمشطهُ بمشطٍ ذهبي،
وهي تغني أغنية
لها لحن مدهش وآسر.

أصابت البحارَ في مركبه الصغيرِ
بألمٍ وحشي؛
 ينظر فقط لأعلى،
وليس بوسعه أن يري الصخور الناتئة.

أحسب أن في نهاية الأمر ستبتلع الأمواج
البَّحار وزورقه
وهذا ما اقترفته اللورا لاي* بغناءها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*اللورا لاي (Lorelei): حسب الأسطورة إنها فتاة جميلة تشبه حورية البحر يقال أنها كانت تجلس على صخرة ما تطل على نهر الراين وتغني بصوت ساحر يأسر البحارة، فينظرون إلى أعلى لتحقق من مصدر الصوت ولا ينتبهون إلى الصخور بالأسفل  فتتحطم مراكبهم ويموتون غرقاً.





الأربعاء، 26 أبريل 2017

ثلاث أرواح متباينة


ترجمة: سماح جعفر وتاج الدين محمد
















نحن نضع القناع
باول لورانس دنبار
نحن نضع القناع الذي يبتسم ويكذب
يخفي خدودنا ويظلل أعيننا
هذا الدَّين الذي ندفعه للمكر البشري؛
نبتسم بقلوب ممزقة ونازفة،
ونُكشر برقة وافرة

لمَ على العالم أن يمعن في الحكمة
بينما يعد كل دموعنا وتنهداتنا؟
كلا، دعهم يرونا بينما نرتدي القناع.

نبتسم ولكن يا المسيح العظيم، صرخاتنا
إليك منشأها أرواحٌ معذبة
نغني، ولكن الطين خسيس
تحت أقدامنا والطريق طويلة
ولكن دع العالم يحلم خلاف ذلك،
نحن نضع القناع!
















الحب ليس كل شيء
(سوناتا 30)
إدنا سان فينسنت ميلاي

الحب ليس كل شيء: إنه ليس لحمًا أو شرابًا
ليس قيلولة ولا سقفًَا قبالة المطر؛
ولا حتى صاري لرجالٍ يواجهون الغرق
يرتفعون ويغوصون يرتفعون ويغوصون مجددًا؛

ليس بوسع الحب أن يملأ الرئتين المكثفتين بالأوكسجين،
ولا أن ينظف الدماء، ولا أن يجبر العظم المهشم؛
ولكن كثيرًا ما يصنع الرجل صداقات مع الموت
أثناء حديثي حتى، لأجل عوز الحب وحده.

وربما ينبع ذلك في ساعة عصية
مثبتاً بالألم يئن من أجل الانعتاق،
متذمرًا من قوة القرار القديم المبتغى،
قد أكون مضطرًا لبيع حبك لقاء السلام،
أو أقايض ذاكرة هذه الليلة لقاء الطعام.
ربما تتفجر، ولكنني لا أعتقد أنها قد تفعل ذلك.
















ليلة في ساين
ليوبولد سنغور


يا امرأة، ضعي يديكِ المهدئتان على جبيني،
فيداكي أكثر نعومة من الفراء.
فوقنا أشجار النخيل متزنة، وبالكاد تصدر حفيفًا
في النسيم الليلي، أو حتى تهويدة.
دعي الصمت الإيقاعي يُهدهدنا
أصغي لأغنيته. أصغي لنبضات دماءنا الداكنة،
إستمعي لخفقان أفريقيا الغامض في ضباب القرى التائهة.
الآن يُجلس القمر المنهك على قاع بحره الفاتر
الآن تخفت القهقهات، وحتى أن الراوي
يهز رأسه كطفل على ظهر أمه
أقدام الراقصين تتثاقل وتتثاقل كذلك،
تأتي أصوات المغنيين متناوبة.


الآن تلوح النجوم وتتكئ أحلام الليل
على تلك التلة من السحب، مرتدية تنورتها الحليبية الطويلة
تلمع أسقف الأكواخ برقة، تُراها ما الذي تقوله
سرًا للنجوم؟ وبالداخل، تخمد النار
في تقارب الروائح الحلوة والمرة.


يا امرأة، أضيئي مصباح الزيت الصافي، دعي الأسلاف
يتحدثون حولنا كما يفعل الآباء عندما يريد الأطفال الخلود إلى النوم
دعينا نصغي لأصوات زعماء إليسا، المنفيون مثلنا،
لم يرغبوا في الفناء أو فقدان تدفق بذورهم في الرمال.
دعيني أستمع لومضة أرواح ودية تزور الكوخ الملئ بالدخان
رأسي على صدرك دافئ كــ دانغ حلو المذاق ينساب من النار
دعيني أتنفس عبق موتانا، دعيني أجمع
أصواتهم الحية و أتحدث إليها، دعيني أتعلم كيف أعيش
قبل أن أغوص أعمق من الغطاس
في مجاهل النوم العظيمة.

الخميس، 20 أبريل 2017

الأنثوي ونظرية ما بعد الجندر*

كاثرين مالابو**
ترجمة: تاج الدين محمد














لا أنوي التحدث عن (مابعد النسوية) فحسب، بل عن النظرية (ما بعد الجندرية) كذلك. سيكون هذا الحديث حول كلٍ من نص جاك دريدا عن نيتشه في كتابه الموسوم بـ المهماز: أساليب نيتشه (Spurs: Nietzsche’s Styles) وكتاب سارتر(المعادي للسامية واليهودي) The) (Anti-semite and Jew، وأود أن أموضع خطابي بين هاتين العبارتين المعروفتين لجاك دريدا في المهماز: "ستكون المرأة موضوعي.. المرأة ما كانت لتكون موضوعي". تشير مفردة (Subject) في اللغة الفرنسية إلى الذات، بمعنى الذاتية، وإلى الموضوع (Topic) في آن. لذلك تعني عبارة دريدا أن المرأة ستكون، ولن تكون، موضوعاً في محاضرته. دعونا نفهم مباشرة أنه إذا لم يكن بالإمكان أن تكون المرأة موضوعاً على وجه الدقة، لأنه ليس بإمكانها أن تكون ذاتاً. أو يمكننا أن نصيغ ذلك بشكل مغاير: "يمكن التعامل مع المرأة كموضوع فقط، باعتبارها لا- ذات (Nonsubject)، وكأنها شخص مفكك (Deconstructed) دوماً. يشير الأنثوي، عند دريدا، إلى المرأة بوصفها استحالة؛ فالمرأة بوصفها موضوعاً أو ذاتاً تعني، أيضاً، بوصفها جوهراً (Essence). على هذا النحو، تبدو التفكيكية (Deconstruction) كواحدة من أكثر الخطابات الضد- جوهرانية (Anti-essentialist) تماسكاً وفعالية. الخطاب الذي يتصادى مباشرةً، بطبيعة الحال، مع الاتجاهات الرائدة للنظريات ما بعد النسوية والجندر من نهاية القرن العشرين. ليس هناك شيء يُدعى (جوهر المرأة)، غالباً ما تكون هذه الجملة مضادة، على سبيل المثال، لعمل سيمون دي بفوار التي تُعد جوهرانية. وحيال هذا النوع من الخطاب تمّ التأكيد، مجدداً، على أنه ليس هناك ما يُدعى بجوهر المرأة. هذا النوع من الحرمان من الجوهر( Deprivation of Essence) هو ما أود تمحيصه ومواجهته على نحو دقيق. ولكي أقوم بذلك، أريد أن اقترح عبارةً ثالثة لعبارة دريدا الثنائية: (ستكون المرأة موضوعي، المرأة ما كانت لتكون موضوعي.. إن المرأة تنفي هذا النفي نفسه). سيمكنني هذا من موضعة المرأة، ليس بوصفها لا- ذاتاً فحسب، بل ذاتاً سالبة، كشخصٍ ينفي نفي جوهره. الفرق بين اللا- ذات، والذات السالبة (Negative Subject)، أن الأولى سلبية مجرد (لاذات) فحسب، أو تشير اللاذات إلى شيء مثل اللا إمكانية والعجز، أما الذات السالبة، فهي على العكس من ذلك، بوصفها موضع قوة. تُعزى تلك القوة الديالتيكية إلى تحويل الحرمان من الجوهر إلى شكل من أشكال الجوهر. فما الحاجة لإعادة تقديم الديالكتيك بعد التفكيك؟ القول بأن المرأة ليست ذاتاً ولا جوهراً، بل تعبيراً تناقضياً عن استحالة المرأة، أُعتبر كموقف تحرري نسوي في حالة حراك. على النقيض من ذلك، اعتقد أن الضد- جوهرانية لا تعدو أن تكون سوى موقف عنيف. محاججتي هي أن حرمان المرأة من الجوهر أمر عنيف. حتى أنني في كتابي (تغيير الاختلاف) (Changing Difference) أحاجج أنه قد تكون هناك شراكة سرية بين هذا العنف النظري والعنف المنزلي في المستوى العملي. في كلتا الحالتين، تكون المرأة منفية (Negated)، في كلتا الحالتين، تكون المرأة تحت السيطرة. المسألة هنا هي كيفية مجابهة مثل هذا العنف، أي كيف لنا أن نعيد تقديم جوهر المرأة دون العودة إلى الجوهرانية (Essentialism). اقترحُ فكرة حد أدنى(Minimal Concept) لمفهوم المرأة، حيث تشير المرأة إلى ذات تعرضت، بإفراط، لنوع معين من العنف. على أن يتم فهم هذا الحد الأدنى للمفهوم بربطه بالذات السلبية المشار إليها آنفاً. يشير المفهوم أعلاه إلى هوية تشكلت بفعل النفي؛ فالمرأة تتشكل بواسطة ما ينفيها. أي أن العنف وحده هو ما يؤكد كينونتها. تعرضتُ للنقد ربما لأنني لم أوضح هذا بصورة كافية. لذا أضطررتُ لتوضيح فكرة (مفهوم الحد الأدني من الجوهر)؛ عليه ، سيكون موضوعي هو المرأة باعتبارها جوهراً سالباً، المرأة باعتبارها جوهراً ديالكتيكياً (Dialectical Essence)ستكون موضوعي، اللدائنية (1) الديالكتيكية للجوهر(Dialectical Plasticity of Essence) ستكون موضوعي. فكرة التعريف السلبي للهوية، بتحديد أكثر، إن الهوية التي تتشكل بفعل النفي، ليست أمراً جديداً بالتأكيد. أحد أكثر تجلياتها الملفتة للنظر، من غير شك، ذكرها سارتر في كتابه (المعادي للسامية واليهودي). هنا اقتبس من سارتر: "اليهودي هو الشخص الذي يعتبره الآخرون يهودياً، هذه حقيقة بسيطة ينبغي أن ننطلق منها. إن المعادي للسامية هو من يصنع اليهودي. لنضع خطين تحت "يصنع". أي أن العنف المعادي للسامية يصنع اليهودي". بالنسبة لسارتر، إن الأمر، على وجه الدقة، هو صنع وتشكيل جوهر أحدٍ ما. بالطبع إن نفي هذا الجوهر النافي هو، أيضاً، إيجابي إلى الحد الذي يجعل فيه اليهودي بالنسبة لسارتر(يصنع نفسه بنفسه)، وذلك في مواجهة ذات العنف الموجه ضده. إن جوهر اليهودي لا يوجد بشكلٍ سابق لنفيه، بل هو نتيجة لنفيه. ومن النفي يَصنعُ اليهودي نفسه. لكي أسبر أغوار مثل هذا النوع من الأنطلوجيا، الذي يقتضيه هذا الجوهر السلبي، الجوهر الذي تشكّل بواسطة التدمير، الجوهر اللدائني (Plastic Essence)، وقبل أن نعرِّج على سارتر في الختام؛ عليّ أن أشرح، بدءً، عبارتي الأولى التي، وفقاً لها، تكون الضد- جوهرانية أمراً عنيفاً لا مقبولاً، يقتضي أن نطور في مواجهته نوعاً من نسوية ما بعد ضد- جوهرانية، ونوعاً من خطاب ما بعد نظرية الجندر. بعدها، سأترك سارتر جانباً للحظة، واتقصى مسار دريدا في كتابه المهماز، لألقي الضوء على العنف الذي بين دفتيه. من الواضح جداً أن المهماز يقدم نفسه بوصفه خطاباً ضد-جوهراني حول المرأة. إن تعبير "ستكون المرأة موضوعي..." يظهر مباشرة في بداية محاضرة دريدا باعتباره بديلاً. ويصرح دريدا في البداية أنه يود الحديث عن الأسلوب، كما هو واضح من عنوان الكتاب (المهماز: أساليب نيتشه)، لكنه يقرر بعدها أن المرأة ستكون موضوعه عوضاً عن ذلك. اقتبس هنا من دريدا: "العنوان الذي سأتناوله كان من المفترض أن يكون مسألة الأسلوب؛ غير أن المرأة ستكون موضوعي. ولست أدري ما إذا كانت المسألتان تعنيان الشيء ذاته". أي أن دريدا يقول إن سؤال الأسلوب وسؤال المرأة يبدوان كسؤالٍ واحد. إلا أن هذه الهوية ليست بهذه البساطة، وهذا ما سيوضحه لنا دريدا. السؤال الذي يصدر، وللمفارقة، من خطٍ فاصلٍ، خط تقسيم داخل مفهوم الهوية، الذي يتتبعه دريدا من خلال نص نيتشه. ويبين لنا أن نيتشه، كأول فيلسوف يخاطب مسألة الأسلوب، هو فيلسوف مثير للجدل، يعزى ذلك إلى تقديمه لنوعين من الخطابات حول الأسلوب، وبالتالي، حول المرأة أيضاً. كما لو أن ثمة تصورين للمرأة عند نيتشه. وسيبين لنا دريدا أن أحد التصورين حول المرأة عند نيتشه جوهراني، والآخر ضد- جوهراني. ويترافق هذا الخطاب المزدوج (Double Discourse) مع الخطاب المزدوج حول الأسلوب، وبالقدر نفسه، مع الخطاب المزدوج حول اليهودي، بالطبع يمكننا ملاحظة اختلافه البيِّن مع ما يذهب إليه سارتر. لذا، سنقوم بسبر أغوار هذا الخط الفاصل عند نيتشه، وكذلك، عند دريدا، ومن ثم نعرِّج على سارتر في الختام.
قراءة دريدا لنيتشه تتمحور،على نحو كلي، حول إثباتين لنيتشه: الأول، في كتابه (ما وراء الخير والشر) حيث يقول نيتشه: "الحقيقة امرأة"، والثاني، في كتابه (غسق الأوثان) حيث يقول نيتشه: "الفكرة تصير أنثى"(Die Idee wird Weib). للمرة الثانية، ثمة تصورين للمرأة في الخطاب النيتشوي، لذا، هناك فهمان متناقضان لهذين الاثباتين من قبل نيتشه نفسه. الفهم الأول جوهراني، كما نعرف ذلك من كثرة التعبيرات المضادة للنسوية، والكارهة للنساء عند نيتشه، وكلها مرتبطة بالجوهرانية. وفقاً لذلك المنظور، فإن التصريح بأن الحقيقة أنثوية، يساوي عند نيتشه، القول إن جوهر المرأة محض: زيفٍ (Falsity)، غواية (Seduction)، حقيقة زائفة (False Truth)، كذب ومظهر(Appearance). ونتيجة لذلك، يصرح نيتشه بضرورة النأي عن المرأة. يقول دريدا: إن من الضروري أن يُبقي المرء مسافة بينه وبين العملية الأنثوية، ويستطرد: "إن المرأة نزعة شكية وخداعٌ حاجب (Veiling Dissimulation). وفكرة أن تصير الفكرة أنثى، تعبير عملي عن هذا الموقف حيال المرأة، لدرجة أنه يمضي بعيداً في كتابه غسق الأوثان: "إن المرأة ليست كاذبة ومغوية (Seducer) فحسب، بل مسيحية أيضاً"، ويضيف إلى ذلك "إن الفكرة تصير امراة ،أولاً، ومن ثم تصير مسيحية". ما الذي يعنيه ذلك؟ فالمرأة ليست مجرد خطئاً أو مغوية، بل تتبدى، أيضاً، بوصفها جوهراً مسيحياً لمفهوم الحقيقة الغربي. ما السبب في ذلك؟ هنا يشرح دريدا أن المرأة والمسيحية تشيران إلى نفس الشيء، ألا وهو الخصاء(Castration)، المرأة تتسبب في الخصاء (Castrating)، الفكرة تتسبب في الخصاء. والرابط بين المرأة والمسيحية عند نيتشه: أن المسيحية هي عملية خصاء كاملة". هنا اقتبس من دريدا: "نزع سن أو اقتلاع عين"، كما تمّ وصفها من قبل نيتشه هي بالتحديد عملية مسيحية (Christian Operation). الانتهاكات التي اُرتكبت بواسطة الفكرة المسيحية، أي بواسطة أن الفكرة تصير امرأة؛ بذا، ستصير المرأة، على غرار المسيحية، هي من تقتلع الحيوية من أجسادنا وتبترها. وهنا، نجد التلازم التقليدي المفرط في جوهرانيته بين المرأة والخصاء. ذات الموقف التقليدي الذي نجده عند فرويد بأن المرأة تتسبب في الخصاء من حيث جوهرها. من هذا المنظور الجوهراني، نلاحظ أن جوهر المرأة، كما ورد مرتين، هو الزيف، جوهرٌ ناجم عن خطأ وعن عملية خصاء. ولكن، في الوقت ذاته، كما ذكرت أن هناك خط تقسيم آخر، يطلعنا عليه دريدا، أي، خطاب آخر حول المرأة عند نيتشه، بمعنى أن هناك ما يشبه فهماً آخراً للاثباتات (Affirmations) التي اقتبسناها في البداية "الحقيقة امرأة"، "الفكرة تصير أنثى". ويبيِّن دريدا أن نيتشه ينتهي إلى خلاصة مختلفة جداً عن التلازم بين المرأة والمظهر والخداع. وعلى حسب دريدا، ثمة رؤية لا جوهرانية حول المرأة عند نيتشه. من هذا المنظور الثاني، نجد أن الكذب والخداع والغواية هي عمليات يفترض أن تكون عمليات أنثوية (Female Operations)، ولكن بمعنىً إيجابي؛ لأنها يمكن أن تفهم على أنها إيماءات فنية (Artistic Gestures)، مُحاكيات (Simulations)، تقليدات (Imitations) بلا نماذج، وعلى وجه الدقة، بلا جواهر. هنا يبدو أنه لا انفصام بين المرأة والفيلسوف الفنان عند نيتشه. يقول نيتشه، كذلك، فيما اقتبسه دريدا "إن المرأة فنانة للغاية" (Das Weib ist so artistisch)؛ فالفن كما المرأة، قد يكشف النقاب عن وجود محاكاة أصيلة، ليس خداعاً، بل محاكاة أصيلة وتقليداً أصيلاً "يرجئان التضاد الحاسم بين ما هو حقيقي وما هو غير حقيقي"، كما يقول دريدا. تظهر الطريقة الثانية للقراءة من خلال مسألة الأسلوب عند نيتشه، وفي أسلوب نيتشه نفسه، وعبر حقيقة أنه لن تكون هناك فلسفة، أي لن تكون هناك حقيقة بلا أسلوب. وهنا، يظهر الخطاب حول المرأة مختلفاً تماماً، تظهر المرأة، وعلى نحو مباغت، بوصفها أسلوباً للحقيقة، وليست كخطأ أو كذبة كما ذكرت آنفاً، بل بوصفها طريقة كتابة، بوصفها كيفية فنية للوجود، لطالما كانت مضطهدة من قبل راديكالية الفلسفات ذات المركزية القضيبية/ العقلانية، كما يدعوها دريدا. وهنا، اقتبس من دريدا: "الأسلوب لا جوهر له"، "يستخدم الأسلوب مهمازه كوسيلة دفاع في مواجهة التهديد المرعب المسبب للإعماء والفناء للذي يقدم نفسه، عليه، فإن الأسلوب يُستخدم ضد الجوهر". لذا، فإن سؤال المرأة وسؤال الحقيقة هما نفس السؤال. تصير المرأة اصطناعاً (Simulacrum) للحقيقة، اصطناعاً للخصاء، ولكن بلا أصل. تصير المحاكاة التي تنقش مسارها في موت الميتافزيقيا وتظل جلية بوصفها أثراً.. أثراً للمحاكاة داخل الحقيقة، كوميديا المسيحية داخل المسيحية، متحولاً جنسياً، اثباتاً لإيماءة ذات طابع فني.
من منظور القراءة الثانية التي تفتح موضوعة المرأة/ الفنان، المرأة بوصفها أسلوبا،ً وهنا اقتبس من دريدا مجدداً: "ليس ثمة ما يُدعى جوهر المرأة؛ لأن المرأة تتفادى، وهي متفاداة من نفسها ومن الفناء، لامتناهية، ولا يمكن سبر أغوارها، تبتلع وتشوه كل آثار الجوهرانية، الهوية والاستقامة. المرأة/ الحقيقة لا يمكن أن تُحدّد" هكذا يظهر نتيشه آخر مناصرٌ أصيلٌ للنسوية، وكذلك تظهر امراة أخرى أيضاً، امراة بلا جوهر، امراة بلا ذاتية جوهرية (Essential Subjectivity)، وهكذا تنغلق الحلقة. ستكون المرأة وقد كانت موضوعي، بوصفها جوهراً (نيتشه الأول). والمرأة ما كانت لتكون موضوعي بوصفها لاجوهراً (نيتشه الثاني). يمكننا أن نتوقف هنا ونقول: تبدو هذه الخلاصة ديالتيكية في الخطاب الدريدي؛ لأن هناك ما يشبه قلباً (Inversion) لنص نيتشه. وهناك ضرب من نفي نفي جوهر المرأة. ولكن المشكلة بالنسبة لي، وهذا ما ساقترحه للنقاش، أن هذا النفي للنفي الأول لا يعيد مضاعفة نفسه لينتج مفهوم ما قد يعنيه الجوهر السالب، بل يظل كما هو فحسب، بصيغة أن للمرأة جوهر، أو أنها بلا جوهر. تمّ نفي الجوهرانية، هذا النفي سينتج ضد- جوهرانية، لكننا بحاجة إلى لحظة ثالثة. كان هيغل ليقول إن شيئاً ما مفقودٌ هنا. هذا النفي المزدوج لا يضاعف نفسه على نحو تأملي (Speculative) لكي ينتج شيئاً من غياب الجوهر هذا. وبالنسبة لي، على الوجه الدقة، فإن هذا الضرب من التجاور (Juxtaposition) بين الجوهر واللاجوهر، هو ما يظهر تحديدًا كعنف، كنوع من العنف ضد المرأة. فمن أين ينشأ هذا العنف؟ بالنسبة لي، وعلى وجه الدقة، إنه ينشأ في باراديم الفن  (Artistic Paradigm). طبقًا لدريدا يُلاحظ أن نيتشه عَكَسَ خطابه عندما اعتبر المرأة بوصفها فنانة. الرابطة المشتقة في خطاب نيتشه بين المرأة والفنان، الرابطة التي يسلِّم بها دريدا بدوره تظهر في الواقع، وفقاً لما أرى، كإطار أنطلوجي غاية في القمعية والمعيارية، إطار للمحاكاة والخداع. وحقيقة أن دريدا يقبل قائلاً: "لكن في هذه المرة الخداع والمحاكاة تقليد بلا نماذج، ونُسَخٌ بلا أصل، لا يغير حقيقةَ أنها تظل مجرد تقليدات. هنا يكمن العنف بالنسبة لي أن تكبسَّل (Capsulate) المرأة والفنان في المحاكاة، حتى ولو كانت هذه المحاكاة كما يقال عنها: بلا أصل، أي بلا جوهر. يقول دريدا: "إنه من الصعب أن نفصل سؤال الفن، الأسلوب والحقيقة، عن سؤال المرأة". والسؤال حول ماهية المرأة نفسه يتمّ إرجاءه عن طريق صياغة بسيطة لإشكاليته العامة. لقد تمّ إرجاء السؤال، ولكن هذه المحاكاة لا تزال هناك. في الواقع، إن هذه المحاكاة هي ما يربط بين (النيتشيين). الأمر الإشكالي، بالنسبة لي، أن الجوهرانية والضد- جوهرانية تتأسسان على المحاكاة نفسها. تُعرِّف جوديث بتلر في كتابها (مشكلة الجندر-(Gender Trouble الأدائية الجندرية (Gender Performativity) بأنها القدرة على محاكاة بلا نموذج. بهذا المعنى، يظل كتاب (مشكلة الجندر) نيتشوياً، يحاكي فيه المرء الجندر الخاص به، دون الإحالة إلى أصل ما. اقتبس من بتلر: "تصور بارودية الجندر- يترجم البارودي (Parody) من اللغة الفرنسية إلى التقليد (Imitation)- لا يفترض هذا التصور، الذي يتمّ الدفاع عنه هنا، أي أصل يمكن أن تقلِّده مثل هذه الهويات البارودية، إن البارودي، بالتأكيد، بعيد عن تصور الأصل نفسه. تُبيّن بارودية الجندر أن الهوية الأصلية التي يشكل الجندر نفسه وفقاً لها، هي تقليد بلا أصل. ولنكن أكثر دقة، في الواقع هي الإنتاج الذي بتأثيره وفي تأثيره يتبدى كمحاكاة ما." ولبتلر بعض التأكيدات الشبيهة بالتي عند دريدا:" ليس بإمكان الجندر أن يكون صائباً أو خاطئاً، ولا حقيقياً أو ظاهراً، ولا أصلياً أو مستنسخاً. كحامل موثوق لهذه الصفات وفوق ذلك، يمكن اعتبار الجندر (لا- معقولاً) بصورة جذرية وشاملة. وهنا مجدداً، نصادف هذا الضرب من الضد- جوهرانية المؤسسة على بارادايم المحاكاة. محاكاة بلا نموذج، لكنها لا تزال محاكاة. بارودي، محاكاة بلا أصل، محاكاة متوضعة، مجدداً، كل هذه التعبيرات المقصود منها تفكيك نموذج النسخة الأصلية، حسناً، لكنها لا تزال تحيل إليها بوصفها مخططاً بنيوياً (Structural Schema). إن كان ثمة وقت، سأوضح أن الفن منذ نيتشه على الأرجح أصبح التعبير النموذجي عن كل الادراكات اللاجوهرانية الخاصة بالهوية الجندرية بغض النظر عن الاختلافات بينها والخطوط الظاهرة لتصدعها. أزعم أن مثل هذا التعبير الفني عن غياب الجوهر أمر كارثي، إنها كارثة بالنسبة للنساء، وكارثة للهوية الجندرية بصورة عامة، وللفنانين أنفسهم. الأنطلوجيا الفنية كارثة بالنسبة للفن والأنطلوجيا. الأنطلوجيا الفنية (محاكاة بلا نموذج) كارثية بالنسبة للنساء والهوية الجندرية بصورة عامة. ولمَ ذلك؟ ما يجعلها غاية في القمعية والمعيارية وتظهر هذه السمة القمعية- سأعطي مثالاً فحسب- من الفصل الذي يكرِّسه دريدا لليهود بالتحديد في كتاب المهماز، إنه يتحدث عن المرأة والأسلوب، من ثم في فصل صغير عن اليهود بالنسبة لنيتشه، دعوني اقتبس هنا: "بهذا الإطراء للعب الأدوار في ابتهاجه بالمحاكاة عن الهستيريات والمفهوم الخطير للفنانين- وهنا يقتبس دريدا من نيتشه في كتاب المعرفة المرحة (Joyful Wisdom) الذي يضع اليهود والنساء في مرتبة المحتالين الخبراء، أي الفنانين، عليه، فإن ضرورة الربط بين اليهود والنساء لا تبدو أمراً تافهاً بالكامل. وحقيقة أن نيتشه غالباً ما يعدهما منخرطان في أدوار متوازية، قد يحيلنا، في الواقع، إلى دافع الخصاء والسيمولاكرا، وصولاً إلى الذي يمثل الختان علامة له، أو بالتأكيد اسم علامة. وعلى هذا تدلل الإشارات في الشذرات الختامية عن المقدرة الهستيرية "... أي ممثل جيِّد ليس يهودياً اليوم؟ اليهودي أديب فطري، ويمارس قوته الخاصة بمقتضى مقدرته الهستيرية؛ نظراً لأن رجل الأدب مُمثِلٌ بالضرورة. يمثل في الواقع دور الخبير أو دور الاختصاصي، وأخيراً دور المرأة: لنضع في الاعتبار تاريخ النساء بمجمله، ألسن مضطرات، قبل كل شيء وفوق كل شيء، أن يكن ممثلات؟" انتهى الاقتباس من نيتشه ومن دريدا- يمكننا ملاحظة أن خطاب الفنان أو خطاب المرأة/ الفنان هو خطاب حول اليهودي أيضاً، وبالتأكيد، يمكننا ملاحظة الغموض الكثيف في هذا النوع من الخطاب، من قبيل أن النساء واليهود خبراء في المحاكاة، حتى لو لم يكن هناك أصل، حتى لو قلنا إن هذه المحاكاة بلا نموذج؛ فهي تظل محاكاة، وبالطبع، إنه خطاب خطير جداً ومريب. بالتأكيد، سيبين دريدا أن هناك خطابين مزدوجين حول النساء عند نيتشه، وحول الفنان واليهود كذلك. الأول جوهراني وغير مقبول، والثاني لا جوهراني وتفكيكي، لكن على الرغم من ذلك، وكما أسلفت أن الضد- جوهرانية التي وردت هنا خطيرة جداً، لأنها لا تزال تقرن الهوية بالمحاكاة. من وجهة نظري، الادعاء أن كل النساء فنانات لا يقل في عدم مقبوليته عن الادعاء بأن كل اليهود ممثلين، أو أن كل الهويات الجندرية بارودية. ختاماً، دعوني أطرح هذا السؤال: لماذا تخطيء الضد-جواهرانية المرتبطة بالفن هدفها؟ لأنها مذنبة باقترافها خطئاً أنطلوجياً، لأنها تخلط بين الجوهر والكينونة. يمكن للمرء أن يصرِّح أن النساء، أو اليهود، أو الفنانين، ليست لهم كينونة، ولكن لا يمكن أن يكونوا بلا جوهر إذا تحدثنا من الناحية الأنطلوجية. مثل هذا الحرمان من الجوهر هو أمر عنيف، ويتمثل عنفه في الحرمان من القوة. التمييز بين الكينونة والجوهر حاضر في كل الأنظمة الفلسفية، وهيغل هو الفيلسوف الذي يؤكد بشدة على الفرق بينهما. يقول هيغل إن الكينونة لا أساس لها بحد ذاتها، هي حضور مباشر، يمكنها أن تختفي بسهولة في نقيضها. على سبيل المثال، الآن هو الصباح، وقريباً سيزول لصالح كينونة أخرى، والآن هو المساء. الكينونة هي مقدرتها على تحويل نفسها إلى كينونة أخرى، أو إلى نقيضها، وهذا على وجه الدقة جوهر الكينونة. الجوهر بهذا المعنى هو ماضي الكينونة، هو أصلها باعتباره قوة تحول. لا أستطيع أن أقاوم متعة قراءة مستهل كتاب هيغل (علم المنطق.. المجلد الثاني) المكرَّس لفكرة الجوهر واختلافها عن الكينونة. اقتبس هيغل: "إن الكينونة مباشرة، طالما أن الهدف من المعرفة هو معرفة الحقيقة، معرفة ماهية الكينونة في ذاتها ولذاتها، وهذه لا تقف عند المباشر وحدوده، لكنها تخترقها بافتراض أن شيء ما يكمن خلف الكينونة، شيء خلاف الكينونة ذاتها. بذا، فإن هذه الخلفية هي التي تشكل تلك الكينونة".
حافظت اللغة الألمانية على الكينونة في الماضي، حيث أن فعل الكينونة (gewesen) يستخدم للفعل (sein) ويستطرد هيغل: "ذلك لأن الجوهر هو ماضي الكينونة، لكن من حيث الزمن" إذن، أنهي اقتباسي هنا. الجوهر ليس الكينونة، بل هو تذكُّر الكينونة في ذاته، من ثم يظهر كأنه خلفيتها، ماضيها، الذي يجعلها ممكنة بوصفها كينونة، كأنه حقيقتها. وإذا كان الجوهر هو حقيقة الكينونة، وأن الكينونة تتحول على الدوام إلى كينونة أخرى، وأن الكينونة منفية عبر/ وباعتبارها كينونة أخرى، هذا يعني أن جوهر الكينونة، وعلى وجه الدقة، يسم تحوليتها الأصلية وقدرتها على الحركة والإختفاء والانبثاق مجدداً، بعبارة أخرى، لدائنيتها (Plasticity). الجوهر هو لدائنية الكينونة. إن الإيماءة العظيمة والفلسفية، بكل تأكيد، التي أنجزها هيغل- على وعن طريق- اللدائنية القصد منها إزاحتها عن أصلها المباشر، وهو مجال الفن. يقول هيغل إن الخطأ الجسيم لفهم اللدائنية هو أن تفهم بوصفها مصطلحاً يخص الفن، بالطبع تشير اللدائنية في الأصل إلى الثقافة، الفن التشكيلي (Plastic Art)، إلا أن معناها الحقيقي، في الواقع، أو مجالها الفعلي، أنطلوجي، وهو مجال الذاتية. أن تكون، هو أن تكون منفياً. في المرحلة الأولى إن هذا الحط المستمر، يتبدى كأنه افتقار للجوهر. يبدو أن قانون الجوهر هو عملية نفي أو فناء أو تلاشٍ مستمرة. والسبب في ذلك على، وجه الدقة، هو أن الجوهر ليس كياناً ثابتاً يصون الكينونة من الدمار والنفي، بل على العكس تماماً، إن الجوهر هو ما يكشف الكينونة عبر النفي بوصفها تحوُّلية وتبدُّلية. الحقيقة هي ما يصرح بها هايدجر في محاضرته حول نيتشه، وهي أن الجوهر قابل للتغيُّر (Changeable) في ذاته. مرة أخرى، الجوهر هو لدائنية الكينونة. بالطبع إن مثل هذه اللدائنية يمكنها أن تظهر بصورة ممتازة من خلال الفن، وربما تكون هناك تعبيرات فنية ممتازة عمّا هو أنطلوجي، ولكن (ما هو فني) حين يُفهم كشيء يرجئ الاختلاف بين الحقيقي واللاحقيقي، هو ليس، بأي حال من الأحوال، المعنى الأولي للدائنية؛ لأن اللدائنية، في معناها الأولي، هي الحقيقة، والحقيقة هي تحوليتها (Transformability) ذاتها. المرأة ستكون موضوعي، المرأة ما كانت لتكون موضوعي، المرأة تنفي هذا النفي نفسه، اللحظة الثالثة هي اللحظة التي عندها يكشفُ نفي كينونة المرأة جوهرها، بوصفه مقدرتها على التغيُّر، وعلى نفي نفي كينونتها نفسه. يظهر الجوهر اللدائني كقوة تحولية تتجاوز المحاكاة، قوة بوصفها كوناتوس(Conatus)2، بوصفها طاقة لقوة مقاومة تتزامن مع هوية ما. بالعودة إلى سارتر في الخاتمة لأنني أعتقد أن ما يقوله هو أن هناك جوهر سالب، جوهر دياليكتيكي، يمكننا أن نشير إلى تأكيده، وهنا نعود إلى مسالة اليهودي: أن تكون يهودياً هو أن يقذف بك إلى/ أن تُترَك لـ وضعية اليهودي، وفي الوقت ذاته أن تكون مسؤولاً في/ وعبر نفسك ذاتها، وعن مصير وطبيعة الشعب اليهودي؛ لأن كل ما يقوله اليهودي، أو يفعله، ما إذا كان لديه تصور ملتبس أو واضح عن مسؤولياته، يظهر وكأنما كل الأفعال خاضعة لواجب كانطي (Kantian Imperative)، وكأنما ينبغي عليه أن يسأل نفسه قبل كل فعل: إذا قام كل اليهود بما أقوم به، ما الذي قد يحدث للحياة اليهودية؟ وللسؤال الذي يطرحه على نفسه، ما الذي يحدث إذا كان كل اليهود مناصرين للصهيونية، أو العكس، قد تحولوا كلهم إلى المسيحية؟ إذا أنكروا كونهم يهوداً...إلخ؟ عليه أن يجد رداً بمفرده وبالسليقة بواسطة اختياره بنفسه. وهنا يمكننا أن نستبدل مفردة اليهودي بمفردة المرأة في كل مرة، وسيعمل ذلك بطريقة ملائمة. يكسر اليهودي كل صِلاتِهِ بالمجتمع اليهودي، غير أنه سيجد ذلك مجدداً في صميم فنه، لأنه سيعايش هنا، في جسده الخاص، الإذلال الذي يفرضه المعادي للسامية على اليهود الآخرين. تعريف سارتر للدائنية، وبالتالي للجوهر، سيكون جوهراً من منطلق النفي، وهو الذي يظهر إيجابياً بوصفه كينونة في موقف ما. مجدداً، يمكننا الاستعاضة عن مصطلح اليهودي بمصطلح المرأة، وعليَّ، هنا، أن أحدد نوعية المرأة، وإذا كان حقاً أن ما يقال عنها يمكن أن ينطبق على اليهودي أو على كلَّ من يسعي إلى الحصول على الاعتراف أو المساواة في الحقوق. أعتقد أن كل حالات العنف محددة، وإذا كانت هناك بنية عامة أو ديالكتيكية للجوهر والجوهرانية، سيكون هناك ضروب محددة من العنف. العنف الموجه ضد المرأة المتمثل، كما نعرفه، في الانتهاك المنزلي والجنسي (Domestic and Sexual Abuse)، الدعارة الإجبارية (Forced Prostitution)، الاستغلال، المازوشية... إلخ. جميعنا في موقف، ولكن هناك لدائنية الموقف. من الموقف الذي أنا فيه، وبوصفي امرأة، وليس من منطلق التقليد، يمكنني أن أقول، في الختام، إن المرأة كانت لتكون موضوعي.
الهوامش:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* النص ترجمة لمحاضرة ألقتها كاثرين مالابو باللغة الانجليزية بعنوان post-gender theory and the feminine وتم بثها على موقع قناة Skripta على اليوتيوب، يمكنكم مشاهدة المحاضرة على الرابط التالي https://www.youtube.com/watch?v=oMOlisKRO5M
** كاثرين مالابو :(Catherin Malabou)فيلسوفة فرنسية تحاضر حالياً بقسم الفلسفة بجامعة كينغستون البريطانية. حصلت على الدكتوارة تحت إشراف كل من جاك دريدا وجاك لاكان في بحثٍ بعنوان: (مستقبل هيغل: اللدائنية، الزمانية، الديالكتيك) الذي تمّ نشره لاحقاً ككتاب بنفس العنوان. المساهمة المركزية لمالابو في الفلسفة القارية هي مفهوم اللدائنية، الذي إستمدته من هيغل من ناحية والحقل الطبي وبالأخص (علم الأعصاب) من ناحية أخري. حيث حاولت عبره إيجاد علاقة بين التفكيكية والديالكتيك.
(1)  اللدائنية: هي إمكانية قبول الشيء للتشكيل- منح أو أخذ شكل، وفي الوقت ذاته، القدرة على الانفتاح على أي إمكانية في المستقبل. أُستخدم هذاالمفهوم للمرة الأولى في حقل علم الأعصاب لوصف القابلية الدائمة للمخ البشري للتغيَّر خلال حياة الإنسان، أي أن المخ البشري لدائني على الدوام، على النقيض من النظرية القديمة التي تقول إن المخ البشري لا يطرأ عليه أي تغير سوى في مرحلة معينة من الطفولة المبكرة.
(2) كوناتوس: الميل الغريزي/ الدافع/ النزوع/ الانخراط/ الكدح/ الفطري للشيء للاستمرار في البقاء وتعزيز نفسه.