الخميس، 30 يوليو 2015

زهرتا الجرانيوم الحزينتان؛ فولفغانغ بورشيرت


ترجمة: تاج الدين محمد










لقد كان الظلام يطوق المكان حينما تَعارفا، فقامت بدعوته إلى شقتها وعرضت عليه رؤية كل ما في الشقة . قماش المائدة، الملاءات وأدوات الطعام خاصتها. ولكن عندما جلسا متقابلين لأول مرة في ضوء النَّهار لمح أنفها، لقد بدت له كأنها مخاطة جراحيًا لم تكن على الإطلاق كالأنوف الأخري، أقرب إلي قطعة من فاكهة منه إلى أنف. يا للهول! ما بال فتحتي الأنف!! إنهما غير متماثلتين على الأطلاق. لايبدو عليهما أدني إنسجام... أحداها ضئيلة و بيضاوية الشكل و الأخري كأنها هاوية تتثاءب، دائرية وبشعة.
أمسك منديله ومسح به جبهته وشرع في التحدث قائلًا:
ــ "الجو حار هنا أليس كذلك؟" بدأ يحدق في أنفها مجددًا. أجل لابد إنه مخاط جراحيًا... إنه يبدو غير متواءم مع الوجه ... حتى أن لونه مختلف جدًا عن  باقي البشرة... أكثر حدةً. وليس هناك أي تماثل  بين فتحتي الأنف ... ربما يكون هذا تماثل  من نوع آخر كما في أعمال بيكاسو.

ـــ "هل تعتقدين أن بيكاسو كان على حق". إستهل الحديث مجدداً
ـــ من؟؟ بيكا... قالت متسائلة.
ـــ "لا شيء" ومن ثم بدون أي مقدمات سألها قائلًا: لابد إنك قد تعرضتي لحادث ما؟
ـــ لماذا؟؟  تسائلت.
ـــ حسناً إذن..
بسبب أنفك... أجل بسببه...
ــ كلا لم اتعرض لحادث لقد كان هكذا على الدوام... قالتها بمنتهى الأناءة والصبر.
كاد أن يقول "ياللهول" لكنه أكتفى بقول: حقًا؟
ــ" وبذلك أكون إنسانة متماثلة على نحو إستثنائي". قالت ذلك بصوتٍ مهموس.
كم أنا مولعة بالتماثل!  أنظر فقط إلى زهرتي الغرانيوم خاصتي على النافذة أحداهما على اليمين والأخرى على اليسار... متماثلتان تماماً. صدقني  من أعماقي أنا شخص مختلف مختلف تمامًا!
عندما وضعت كفيها على ركبتيه أحس أن عينيها المريعتين و رأسها متوهجة.
أنا أيضًا مع فكرة الزواج مع مشاركة الحياة مع شخص آخر: قالت بهدوء و إستحياء
ولما! بسبب التماث!!
كلا بسبب التواءم... قالت مصوبةً إياه على نحو مهذب.
أجل... بسبب التواءم بالتأكيد. ومن ثم وقف على رجليه..
"هل تريد أن تغادر؟" سالت.
أنا ... أجل.
قدمت معه إلى الباب لتودعه...
من أعماقي أنا شخصٌ مختلف... رددت ذلك مجدداً.
خُيل له أن أنفها شيء فرض نفسه عنوة  على وجهها.. قال بصوت مرتفع:
من الأعماق أنتٍ كزهرتي الجرانيوم، تودين أن تقولي متماثلة تماماً أليس كذلك؟؟
ومن ثم أخذ الدرج إلى أسفل دون أن يتجشم عناء الإلتفات إلى الخلف. لقد كانت تقف عند النافذة وتنظر إليه من الخلف. وقد لمحته وهو واقفٌ بالأسفل يمسح جبهته بمنديله مرة ومرتين وكرر ذلك مرة أخرى، لكنها لم تتمكن من رؤيته وهو يبتسم مع كل مسحة من منديله لأن عيناها كانتا مغروقتين بالدموع. و زهرتا الغرانيوم كانتا أيضاً حزينتين أو بالأحري كانت تفوح منهما رائحة الحزن.

الثلاثاء، 28 يوليو 2015

رادي؛ قصة قصيرة؛ فوفغانغ بورشيرت



ترجمة عن الألمانية: تاج الدين محمد
















لقد كان رادي مساء اليوم معي، أشقرًا كما هو دومًا كذلك. ضاحكًا بوجهه العريض الناعم وقد كانت عيناه كما عهدتها دومًا يعتريها الرهبة واللاطمأنية، وكذلك كانت هناك بعض الشعيرات الشقراء التى بدت تنمو على ذقنه. كل شيء كما هو تمامًا.
قلت: أنت ميت بالتأكيد!
ـــ أجل، ولكن أرجوك لا تضحك! قال مجيبًا.
ـــ وعلاما ينبغي علي أن أضحك؟
ـــ "لقد كنتم تضحكون على دائمًا، أنا أعرف ذلك جيداً، في طريقنا إلى المدرسة لقد كانت شكل قدماي مضحكة وحينما كنت اتحدث مع كل الفتيات حتى اللائي لا أعرفهن، لقد كنتم تضحكون من كل هذه الأشياء، و لأنني كنت قلقًا بعض الشيئ على الدوام، أعرف ذلك جيدًا."
ـــ "هل كنت ميتًا لمدة طويلة؟ سألته.
ـــ كلا، أطلاقاً... لم يتمكنوا من وضعي على الأرض كما ينبغي فسقطت في الشتاء، كل شيء كان متجمدًا، كل شيء كان صلبًا مثل الصخر.
ـــ "إذن سقطت في روسيا... أليس كذلك؟؟"
ـــ "نعم لقد كان ذلك الشتاء الأول... لا تضحك فحسب!!... إنه ليس بالأمر اللطيف أن تلقى حتفك في روسيا... كل شيء بدا غريبًا بالنسبة لي في روسيا، الأشجار غريبة وحزينة لقد كان معظمها من فصيلة الغار. حيث كنت أرقد كانت هناك شجرة غار صاخبة و حزينة. أما الحجارة فقد كانت تتأوه أحيانًا، لانها حجارة روسية فقد كانت تئن. و الغابات بدورها كانت تأن ليلًا، ﻷنها أشجار روسية على اﻷرجح. ويئن الجليد كذلك، لانه جليد روسي... أجل كل شيء بدا غريبًا... غريبًا جدًا."
لقد كان رادي يجلس على حافة سريري صامتًا. قلت له: "ربما تبدو لك اﻷشياء هكذا ﻷنه كان عليك أن تموت هناك.
نظر في وجهي قائلاً: هل تعتقد ذلك؟ كلا، أنت تعتقد ذلك.. كل شيء يبدو غريبًا على نحو مريع... كل شيء."
نظر إلى ركبتيه وقال: "كل شيء غريب حتي أنا أبدو غريبًا... حتى أنا !!"
أجل... أرجوك لا تضحك... أنت السبب في قدومي الليلة، أريد التحدث معك.
ــ معي؟
"نعم معك... أرجوك لا تضحك! معك على وجه الخصوص. أنت تعرفني جيدًا أليس كذلك؟"
ــــ "لقد كنت أعتقد ذلك على الدوام."
ــــ ليس مهمًا. إنت تعرفني جيداً... أعني أنت تعرف كيف تبدو هيئتي لا أعني من أكون!! تعرفني أليس كذلك؟؟
ــــ أجل، أشقر ذو وجه ممتلىء.
ــــ كلا قُلَّ وجه ناعم!! أنا أعرف إن وجهي ناعم.
ــــ أجل لديك وجهًا ناعمًا وعريضًا وقد كنا نضحك عليك بسبب ذلك على الدوام.
ــــ أجل، كيف كانت عيناي؟
ــــ لقد كانت تبدو غريبة و حزينة.
ــــ كلا لاينبغي عليك أن تكذب.. لقد كانت عيناي قلقة و غير مطمئنة ﻷنني لم أكن أدري إذاما كنتم ستصدقون كل ما كنت أخبركم به عن تلكم الفتيات حينها.
ــــ هل كان وجهي ناعماً على الدوام؟؟
ــــ كلا لم يكن كذلك ... لقد كانت لديك بعض الشعيرات الشقراء على ذقنك، لقد كنت تعتقد ليس بإمكان أي شخص رؤيتها ولكننا كنا نراها ونضحك... نضحك.
 كان رادي جالساً على حافة السرير فقام بفرك يداه على ركبتيه وقال: أجل... لقد كنت أبدو كذلك بالضبط، و من ثم نظر إلي فجاءة بعينيه القلقتين. أرجوك أسدِ لي معروفًا! لا تضحك!! تعال معي!
ــــ إلى روسيا؟!
ــــــ أسرع! فقط لبرهة من الوقت... ﻷنك تعرفني جيدًا.
أمسك بيدي وقد كانت يداه باردة جداً كالجليد مفككة و خفيفة.
 كنا نقف بين شجرتي غار وقد كان هناك شيئًا خفيفًا ملقى على اﻷرض.
ـــ"تعال هنا حيث أرقد أنا" قال رادي.
 رأيت جمجمة بشرية مثل التي أعرفها من أيام المدرسة وبجانبها قطعة من المعدن.
قال رادي: "هذه خوذتي الحديدية لقد أصبحت صدئة بالكامل ومليئة بالطحالب".
أشار رادي بأصبعه نحو الجمجمة و قال: رجاءً لا تضحك! هذا أنا... هل يمكنك أن تفهم ذلك؟! أنت تعرفني جيدًا... قُلَّ لنفسك!! هل يمكن أن أكون هذا؟! أنت تعرف! ألا تجد ذلك غريبًا بشكل مريع؟! هذا غير مألوف بالنسبة لي. لا يمكن ﻷي شخص أن يتعرف علي بعد اﻵن، لكن هذا أنا... يتوجب علي أن أقول ذلك ولكنني لا أفهم ذلك. الأمر يبدو غريبًا على نحو مريع. كل ما كنته من قبل ليس له أدني علاقة بما أنا عليه الآن... أرجوك لا تضحك!! ولكن اﻷمر كله يبدو غريباً بالنسبة لي... غامض... بعيد.
جلس رادي على اﻷرض المظلمة ونظر لنفسه بأسى.
ـــ هذا ليس له أدنى علاقة بما كان عليه من قبل. لاشيء.. لاشيء أطلاقًا.
بعدها رفع رادي شيئاً ما من اﻷرض المظلمة بأطراف أصابعه، رفع الشيء عاليًا و من ثم بدأ بشمه.
"غريب غريب جدًا" قال رادي هامسًا ومد لي حفنة التراب، لقد كانت مثل الجليد، مثل يده التي أمسكني بها. باردة جدًا، مفككة وخفيفة جداً.
"شُمها!!" قال رادي.
فقمت بإستشاقها بعمق و من ثم قلت : تربة.
ـــ و ماذا؟؟ قال رادي.
ــــ "حامضة قليلاً و مُرَّة بغض الشيء تربة مثالية"
ــــ لكنها غريبة غريبة جداً و مثيرة للإشمئزاز مع ذلك، أليس كذلك؟
إستنشقت التربة بعمق لقدكانت باردة، مفككة وخفيفة... حامضة قليلًا و مُرَّة بعض الشيء.
ــــ " رائحتها طيبة مثل التربة" قلت.
ــــ أليست غريبة و مثيرة للإشمئزاز؟؟" قال رادي متسائلًا وهو ينظر إلي بعينيه القلقتين: رائحتها مثيرة للإشمئزاز.
ــــ كلا، كل تربة تفوح منها نفس الرائحة"
ــــ كلها تفوح منها مثل هذه الرائحة!! قال رادي متسائلًا .
ـــــ "أجل، كلها"
أستنشق بعمق و حشر أنفه في يده المليئة بحفنة التراب بدا بشمها، ثم نظر بناحيتي:
أنت محق، إن رائحتها ربما تكون جيدة ولكن تبدو غريبة مع ذلك، عندما أفكر أنه أنا الذي يرقد هناك."
جلس رادي على اﻷرض بدا بشم التراب وقد نسي وجودي معه وأستمر في شم التراب ولكنه بدأ بإستخدام كلمة "غريب" على نحو أقل.
عندما عدت إلى البيت على أمشاطي
كانت عقارب الساعة تشير إلي الخامسة و النصف صباحًا. لقد بدت التربة واضحة من خلال الجليد لقد كانت باردة مفككة و خفيفة ذات رائحة فوَّاحة. فتوقفت و أخذت نفساً عميقاً: إن رائحتها طيبة يا رادي... قلت هامسًا، إن رائحتها طيبة حقاً... تربة مثالية... يمكنك أن ترقد بسلام.