الأربعاء، 29 أبريل 2020

قصيدتان لـ تراسي كـ. سميث؛ ترجمة: تاج الدين محمد



















والدة إينشتاين

هل كان صَامتاً لِبعض الوقت
أم مُبللاً بالدموعِ؟
هل كان يرفعُ يديه إلى أذنيه، ليتمكن من الصراخ؟
هل كان يأكل بقبضتي يديه فحسب؟ هل كان يأكل كما لو أن
شيئاً ما بداخله لن يشبع أبداً؟
هل كان يحني ظهره ويضرب بكعبيه على الأرض بمجرد
أنه  كان يبحث عن شيء ما؟
هل أحسست أنك عالقاً هناك، تريدُ الفكاك، الهروب، تريد
أن تُعاد إلى حيث إنبعثت روحاك المشوشتان؟
هل سبق أن أحسستُ كما لو أن شيئاً ما يرتقي بداخلك؟ شبح بشحوب ناري.
هل أحسست يوماً بالشفقة، لمن؟

خوضٌ في الماء

حيَّتني أحداهن.
قالت لي: أحبك.
إنها لا تعرفني، لكنني صدقتها.
ألمٌ مريعٌ مستجدٌ تسرب إلى صدري
كما في غرفة شدت ستائرها إلى الخلف
أحبُّك، أحبُّك، بينما هي تقول ذلك، كان هناك غرباء آخرون يمرون أسفل الصالة
أحس الجميع بغتة باِختراق أعمدة الضوء المتدفق
أحبُّك طوال الحفل، في كل صفقة كف
في كل ضربة على الأرض.
أحبُّك في سلاسل حديد صدئة 
أُرغم أحدهم على جرها حتي أرخى الحب قبضتها
لتغدو فارغة
في منتصف الحلقة
أحبُّك في الماء الذي
تظاهروا بخوضه
وهم يترنمون بأغنية الدم العميقة
التي ساقتنا إلى تلك الضفاف
لنترك هناك. أحبك
حيث تهرشُ الزوايا كل الحناجر، تتنكب
عبور عجاج الرمل الدوار
على خيوط الضوء تلك.
كل ما ندركه الآن، كان بإمكاننا إحساسه،
تعلمنا التسلق، أيتها الأدغال، أيها الكلاب
أيتها الشجرة، أيتها الصبية، أركضي
لقد مضى الكثير من الخارقين
يا إلهي، يا إلهي، يإلهي
أهذا الحُب هو ما وعدتنا به من مشقة؟ 

الأحد، 19 أبريل 2020

البقاء في عالمين في آنٍ واحد: فيدريكو غارسيا لوركا والدويندي


تراسي ك. سميث

ترجمة: تاج الدين محمد 














نَحنُ نقرأ القصائدَ لأنها تُغيَّرنا، ودوافعنا لكتابتها تَدورُ حول الحقيقة نفسها. القصيدة الجيَّدة تتحدثُ إليَّ من مَوضعٍ ينتمي إليَّنا- ذلك التَأرجحُ المُخاتل للذات الذي يُمكن أن يَسمه البعض بالروحِ، النَّفس أو اللاوعي- نؤمن بوجوده، لأننا نَحسُّ بعملهِ، لكننا نعجزُعن الإفصاح عن متى وكيف ولِمَ يَعمل من الأساس. بالتَّأكيد، نحنُ كشعراء اكتشفْ معظمنا دُروباً لإطلاقِ العنانٍ، كافية لتشجيع أي شيء من شأنه إرسال الأسئلة والكَلمات والإتيان بها  من ذلك الفَضاء. وأفضل القراءُ يدركون أن ذلك المَوضع هو ما سَتمضِي إليه القصائدُ،عندما ترتطم بنا بقوة، وتعْلمنا، وتصل الدِّيار.
أطلق الشَّاعر الإسباني فيدريكو غارسيا لوركا على حارس ذلك المكان "دويندي"*  شيطان، جني، مشاغب، حارس اللغز، الجذور المثبتة في الوحل التي يَعرفها الجَّميع ولكنهم يتجاهلونها. بخلافِ آلهة الشّعر أو الملاك، التي/ الذي توجد/يوجد ما وراء أو ما فوق الشاعر. يَغطُّ الدويندي في نومٍ عميق بداخلِ الشَّاعر ويدعوه إلى إيقاظه ومُصارعته وغالباً ما تكون التَّكلفة فادحة. كانت النّقطة المَركزية لإحالةِ لوركا  للتوسع في مفهوم الدويندي هي  تقاليد الغجر المتعلقة بـ"الأغنية العميقة" السابقة للفلامنجو. قاد ارتباطه الوثيق بالتقاليد الأمريكية الشَّعبية لمُوسيقى الجاز والبلوز والروحانيات إبان إقامته في نيويورك في الفترة بين 1939-1940 إلى تطوير وشحذ نظريته حول "الأصوات القاتمة" وعلاقتها بالحياة والفن. في محاضرته الشهيرة: "نظرية ولعبة الدويندي" التي قدمها لأول مرة في الأرجنتين عام 1933، عَمد على تَعضيد العلاقة بين "الدويندي" والشاعر.
أنا مولعة بمفهوم الـ دويندي لأنه يقدم تصوراً لا يُفترض أن  قصائدنا  مجرد أشياء نخلقها بغرض إرضاء أو إبهار  قارئ ما فحسب، أو قل  تلقينه، بل نكتب القصائد للخوض في كفاحٍ محفوفٍ بالمخاطر بيد أنه ضروري لنعيش داخل ذواتنا على نحوٍ أكثر اكتمالاً. ذواتنا الحقيقية التي بالكاد ندركها. حينئئذ يومِئُ الدويندي واعداً بمنح شيءٍ حديث الخلق على غرار المعجزة. بعدها يغمز الدويندي  موعزاً ببدء لعبة الهجوم التمويهي والمراوغة، الاندفاع والصَّد، الهرش والتَّملص. ويُلتفت إلى الوراء، ليوشك على الاختفاء تماماً، ليتجسد مرة أخرى وبعناقٍ عنيف يُطيح بك أرضاً ويُوشك القضاء عليك. ولن تحصل على معجزتك، إلا إذا كان بمقدورك حل شفرة موسيقى المعركة، ومستعداً لركوب خطر تلوِ آخر. بتعبيرٍ آخر، القدرة على مكابدة المشاق. بالنسبة للشاعر، تُعتبر هذه النجاة بمثابة المشي كلمة تلو الأخرى نحو عتبة خلقك. عليك استخدام أدواتك التي أحضرتها معك ولكن حتماً بطرقٍ  مُختلفةٍ ومحفوفةٍ بالمخاطر.
إذا كان كل هذا حقيقياً، وأظن أنه كذلك، فأن هذا الكفاح ليس مجرد أن تكتب قصائد ذات صياغة جيدة ومدهشة فحسب، بل بقدر ما هي القدرة على البقاء في عالمين في آنٍ واحد: العالم الذي نراه ( قوامه البشر، والمناخ والوقائع الجامدة). عالم بعجائبه و خيباته، هو الذي ساقنا إلى الصفحة ابتداءً؛ والعالم خارج وداخل هذا العالم، ذلك الذي نحن بصدد محاولة حل شفرته وتأكيده بنظرةٍ خاطفةٍ تلوِ أخرى. إذ أن البقاء في العالم السَّابق يَستند على التوازن، المنظور، التدريب، سعة معرفة وحنكة. وبإمكان الشَّاعر الاجتياز بتلك الأشياء لوحدها، وبإمكان العديدين فعل ذلك، فبعض الكبرياء لا يُؤذي. ولكن لأي شخصٍ مقتنع تماماً بـ "الدويندي"، إن العالم اللاحق هو ما يُهم أكثر. عالم، الذي يتفوق فيه الجُّنون والزُّهد على المَعْقول، حيث المهارة فعالة فقط بقدرِ ما تضيفه من إقدامٍ ورشاقة للحدس.
من النَّاحية العملية، إن هذا الواقع المزدوج يتجسد للشاعر في شيءٍ غاية في البساطة: وحدها الموهبة  تمضي بعيداً. فهي ستقودنا فقط  إلى المدخل الذي يقيم فيها المغزى من الكتابة  أو الإستمرار في الكتابة . تقودك الموهبة إلى هناك وترفع يدك لمطرقة الباب. وبعدها، ما يسحبك إلى الداخل ويبقيك على قيد الحَّياة هي الضَّرورة فقط. ضرورة الإجابة عن الأسئلة غير المُصاغة. الحاجة إلى صدى  من أقاصي الذات النائية. الحاجة إلى إيقاف الزمن لاِكتناه المبهم، للإيمان  بالماهية والذات والكيفية. الحاجة إلى نوع من السحر- أو كما يسمها لوركا بالمعجزة.
 ليس من قبيل المصادفة أن يتوصل لوركا إلى فهم الدويندي نتيجة لمشاهدة مغنيي الغجر الأندلسيين الذين كانت تتحدى أصواتهم المُّضطربة البراعة الكاملة. يقومُ الأفضل بينهم بسحب روح الكشف إلى الحجرة. وعندما يحدث ذلك، يكون الدويندي قد اُنتزع من عرينه انتزاعاً. والأغاني التي تجعل مثل هذا الكشف مُمكناً من الأساس هي أغان عن الكفاح دوماً. دوماً ما تكون نوعاً من غناء لحنٍ غرامي للصمود والمقاومة الذي يكابد لخلق وإثبات نجاحه.

وأيما شاعر/ة صادق/ة مع نفسه/ـا، سيـ/تدرك الكفاح المُجاور جداً للدافع من الكتابة. يمكن وصف كفاح الغجر بإعتباره كفاحاً من أجل الاستقرار ومقاومة  الذوبان في الثقافة أكبر وأكثر قوة. فهو حرفياً كفاح ضد التواري. قد لا ينطبق هذا كفاح تماماً على الشعراء في المجتمع الأمريكي، ولكن بطريقة أو أخرى هنالك صلة ما بمأزق الغجر. هناك عالمان يوجدان معاً، وهناك عالمٌ يندفع ضد الآخر، ويدَّعي أن الآخر ليس موجوداً أو ليس بحاجة إلى الوجود. ويحدث الدويندي ضجيجاً كأنه يقول بطريقة ما:  لن تظل كاملاً مالم تتحرك يوماً تلو آخر، مسودة تلو أخرى، قصيدة بعد أخرى ومن عالم إلى الذي يليه.

*لقراءة المزيد حول مفهوم الدويندي يرجى قراءة ترجمة محاضرة لوركا على الرابط أدناه: