الثلاثاء، 9 يوليو 2024

البقاء على قيد الحياة في عالمين في آنٍ واحد: فيدريكو غارسيا لوركا والدويندي


تراسي ك. سميث
ترجمة: تاج الدين محمد 
نَحنُ نقرأ القصائدَ لأنها تُغيَّرنا، ودوافعنا لكتابتها تَدورُ حول الحقيقة نفسها. القصيدة الجيَّدة تتحدثُ إليَّ من مَوضعٍ ينتمي إليَّنا- ذلك التَأرجحُ المُخاتل للذات الذي يُمكن أن يَسمه البعض بالروحِ، النَّفس أو اللاوعي- نؤمن بأنه موجود، لأننا نَحسُّ بعملهِ، لكننا نعجز عن الإفصاح عن متى وكيف ولِمَ يَعمل من الأساس. بالتَّأكيد، كشعراء أكتشفْ معظمنا دُروباً لإطلاقِ العنانٍ، كافية لتشجيع أي شيء من شأنه إرسال الأسئلة والكَلمات والإتيان بها من ذلك الفَضاء. ويدرك القراءُ الجيدون أن ذلك المَوضع هو ما سَتمضِي إليه القصائد عندما ترتطم بنا بقوة، وتعْلمنا، وتصل الدِّيار.
أطلق الشَّاعر الإسباني فيدريكو غارسيا لوركا على حارس ذلك المكان "دويندي"  - شيطان، جني، مشاغب، حارس اللغز، الجذور المثبتة في الوحل التي يَعرفها الجَّميع ولكنهم يتجاهلونها. بخلافِ آلهة الشّعر أو الملاك التي/ الذي توجد/يوجد ما وراء أو ما فوق الشَّاعر. يَغطُّ الــ "دويندي" في نومٍ عميق بداخلِ الشَّاعر ويدعوه إلى إيقاظه ومُصارعته وغالباً ما تكون التَّكلفة فادحة. كانت النّقطة المَركزية لإحالةِ لوركا للتوسع في مفهوم الـ"دويندي" هي تقاليد الغجر المتعلقة بـ"الأغنية العميقة"  السابقة للفلامنجو. قاد ارتباطه الوثيق بالتقاليد الأمريكية الشَّعبية لمُوسيقى الجاز والبلوز والروحانيات إبان إقامته في نيويورك في الفترة بين 1939-1940 إلى تطوير وشحذ نظريته حول "الأصوات القاتمة" وعلاقتها بالحياة والفن. في محاضرته الشهيرة: "نظرية ولعبة الدويندي"  التي قدمها لأول مرة في الأرجنتين عام 1933، عَمد على تَعضيد العلاقة بين "الدويندي" والشاعر.
أنا مولعة بمفهوم الـ دويندي لأنه يفترض أن قصائدنا ليست أشياء نخلقها بغرض إرضاء أو إبهار قارئ ما فحسب، أو قل أو ملقناً، بل نكتب القصائد للخوض في كفاحٍ محفوفٍ بالمخاطر بيد أنه ضروري لنعيش داخل ذواتنا على نحو أكثر اكتمالاً. ذواتنا الحقيقية التي بالكاد ندركها. حينئذ يومئ الدويندي واعداً بمنح شيءٍ حديث الخلق على غرار المعجزة. بعدها يغمز الدويندي موعزاً ببدء لعبة الهجوم التمويهي والمراوغة، الاندفاع والصَّد، الهرش والتَّملص. ويلتفت إلى الوراء، ليوشك على الاختفاء تماماً، ليتجسد مرة أخرى وبعناقٍ عنيف يُطيح بك أرضاً ويُوشك القضاء عليك. ولن تحصل على معجزتك، إلا إذا كان بمقدورك حل شفرة موسيقى المعركة، ومستعداً لركوب خطرٍ تلو آخر. بتعبيرٍ آخر، القدرة على مكابدة المشاق. بالنسبة للشاعر، تُعتبر هذه النجاة بمثابة المشي كلمة تلو الأخرى نحو عتبة خلقك. عليك استخدام أدواتك التي أحضرتها معك ولكن حتماً بطرقٍ مُختلفةٍ ومحفوفةٍ بالمخاطر.
إذا كان كل هذا حقيقياً، وأظن أنه كذلك، أن هذا الكفاح ليس مجرد نظم قصائد ذات صياغة جيدة ومدهشة فحسب، بل بقدر ما هي القدرة على البقاء في عالمين في آنٍ واحد: العالم الذي نراه (قوامه البشر، والمناخ والوقائع الجامدة، عالم بعجائبه وخيباته، هو الذي ساقنا إلى الصفحة من الأساس؛ والعالم خارج وداخل هذا العالم، ذلك الذي نحن بصدد محاولة حل شفرته وتأكيده بنظرةٍ خاطفةٍ تلوِ أخرى. إذ أن البقاءَ في العالم السَّابق يَستند على التوازن، المنظور، التدرب، سعة المعرفة والحنكة. بإمكان الشَّاعر الاجتياز بتلك الأشياء لوحدها، وبإمكان العديدين فعل ذلك، بعض الكبرياء لا يؤذي. ولكن لأي شخصٍ مقتنع تماماً بـ "الدويندي"، إن العالم اللاحق هو ما يُهم أكثر. عالم، الذي يتفوقُ فيه الجُّنون والزُّهد على المَعْقول، حيث المهارة فعَّالة فقط بقدرِ ما تضيفه من إقدامٍ ورشاقة للحدسِ.
من النَّاحية العملية، إن هذا الواقع المزدوج يتجسد للشاعرٍ في شيء غاية في البساطة: وحدها الموهبة تمضي بعيداً. فهي ستقودنا فقط إلى المدخل الذي يقيم فيها المغزى من الكتابة أو الاستمرار في الكتابة. تقودك الموهبة إلى هناك وترفع يدك لمطرقةِ الباب. وبعدها، ما يسحبك إلى الداخل ويبقيك على قيد الحَّياة هي الضَّرورة فقط. ضرورة الإجابة عن الأسئلة غير المُصاغة. الحاجة إلى صدى من أقاصي الذات النائية. الحاجة إلى إيقاف الزمن لاكتناه المُبهم، للإيمان بالماهية والذات والكيفية. الحاجة إلى نوع من السِّحر- أو كما يَسمها لوركا بالمعجزة.
 ليس من قبيل المُصادفة أن يتوصل لوركا إلى فهم الدويندي نتيجة لمشاهدة مغنيي الغجر الأندلسيين، الذين كانت تتحدي أصواتهم المُّضطربة البراعة الكاملة. يقوم الأفضل بينهم بسحب روح الكَّشف إلى الحجرة. وعندما يحدث ذلك، يكون الدويندي قد اُنتزع من عرينه انتزاعاً. والأغاني التي تجعل مثل هذا الكَّشف مُمكناً من الأساس هي أغان عن الكفاح دوماً. دوماً ما تكون نوعاً من غناء لحنٍ غرامي للصمود والمقاومة الذي يكابد لخلق وإثبات نجاحه.
وأيما شاعر/ة صادق/ة مع نفسه/ـا، سيـ/تدرك الكفاح المُجاور جداً للدافع من الكتابة. يمكن وصف كفاح الغجر باعتباره كفاح من أجل الاستقرار ومقاومة الذوبان في الثَّقافة أكبر وأكثر قوة. فهو حرفياً كفاح ضد الاختفاء. قد لا ينطبق هذا كفاح تماماً على الشعراء في المجتمع الأمريكي، ولكن بطريقة أو أخرى هنالك صلة ما بمأزق الغجر. هناك عالمان يوجدان معاً، وهناك عالم يندفع ضد الآخر، ويدعي أن الآخر ليس موجوداً أو ليس بحاجة إلى الوجود. ويحدث الدويندي الضجة كأنه يقول بطريقة ما: لن تظل كاملاً مالم تتحرك يوماً تلو آخر، مسودة تلو أخرى، قصيدة بعد أخرى ومن عالم لآخر.