تراسي ك. سميث
ترجمة: تاج الدين محمد
نَحنُ
نقرأ القصائدَ لأنها تُغيَّرنا، ودوافعنا لكتابتها تَدورُ حول الحقيقة نفسها.
القصيدة الجيَّدة تتحدثُ إليَّ من مَوضعٍ ينتمي إليَّنا- ذلك التَأرجحُ المُخاتل
للذات الذي يُمكن أن يَسمه البعض بالروحِ، النَّفس أو اللاوعي- نؤمن بوجوده، لأننا
نَحسُّ بعملهِ، لكننا نعجزُعن الإفصاح عن متى وكيف ولِمَ يَعمل من الأساس.
بالتَّأكيد، نحنُ كشعراء اكتشفْ معظمنا دُروباً لإطلاقِ العنانٍ، كافية لتشجيع أي
شيء من شأنه إرسال الأسئلة والكَلمات والإتيان بها من ذلك الفَضاء. وأفضل
القراءُ يدركون أن ذلك المَوضع هو ما سَتمضِي إليه القصائدُ،عندما ترتطم بنا بقوة،
وتعْلمنا، وتصل الدِّيار.
أطلق الشَّاعر الإسباني فيدريكو غارسيا لوركا على
حارس ذلك المكان "دويندي"* شيطان، جني، مشاغب، حارس اللغز، الجذور المثبتة في الوحل التي يَعرفها الجَّميع ولكنهم يتجاهلونها. بخلافِ آلهة
الشّعر أو الملاك، التي/ الذي توجد/يوجد ما وراء أو ما فوق الشاعر. يَغطُّ
الدويندي في نومٍ عميق بداخلِ الشَّاعر ويدعوه إلى إيقاظه ومُصارعته وغالباً ما
تكون التَّكلفة فادحة. كانت النّقطة المَركزية لإحالةِ لوركا للتوسع في
مفهوم الدويندي هي تقاليد الغجر المتعلقة بـ"الأغنية
العميقة" السابقة للفلامنجو. قاد ارتباطه الوثيق بالتقاليد الأمريكية
الشَّعبية لمُوسيقى الجاز والبلوز والروحانيات إبان إقامته في نيويورك في الفترة
بين 1939-1940 إلى تطوير وشحذ نظريته حول "الأصوات
القاتمة" وعلاقتها بالحياة والفن. في محاضرته الشهيرة: "نظرية
ولعبة الدويندي" التي قدمها لأول مرة في الأرجنتين عام 1933، عَمد على
تَعضيد العلاقة بين "الدويندي" والشاعر.
أنا مولعة بمفهوم الـ
دويندي لأنه يقدم تصوراً لا يُفترض أن قصائدنا مجرد أشياء نخلقها بغرض
إرضاء أو إبهار قارئ ما فحسب، أو قل تلقينه، بل نكتب القصائد
للخوض في كفاحٍ محفوفٍ بالمخاطر بيد أنه ضروري لنعيش داخل ذواتنا على نحوٍ أكثر
اكتمالاً. ذواتنا الحقيقية التي بالكاد ندركها. حينئئذ يومِئُ الدويندي واعداً
بمنح شيءٍ حديث الخلق على غرار المعجزة. بعدها يغمز الدويندي موعزاً
ببدء لعبة الهجوم التمويهي والمراوغة، الاندفاع والصَّد، الهرش والتَّملص. ويُلتفت
إلى الوراء، ليوشك على الاختفاء تماماً، ليتجسد مرة أخرى وبعناقٍ عنيف يُطيح بك
أرضاً ويُوشك القضاء عليك. ولن تحصل على معجزتك، إلا إذا كان بمقدورك حل شفرة
موسيقى المعركة، ومستعداً لركوب خطر تلوِ آخر. بتعبيرٍ آخر، القدرة على مكابدة
المشاق. بالنسبة للشاعر، تُعتبر هذه النجاة بمثابة المشي كلمة تلو الأخرى نحو عتبة
خلقك. عليك استخدام أدواتك التي أحضرتها معك ولكن حتماً بطرقٍ مُختلفةٍ
ومحفوفةٍ بالمخاطر.
إذا كان كل هذا حقيقياً،
وأظن أنه كذلك، فأن هذا الكفاح ليس مجرد أن تكتب قصائد ذات صياغة جيدة ومدهشة فحسب،
بل بقدر ما هي القدرة على البقاء في عالمين في آنٍ واحد: العالم الذي نراه ( قوامه
البشر، والمناخ والوقائع الجامدة). عالم بعجائبه و خيباته، هو الذي ساقنا إلى
الصفحة ابتداءً؛ والعالم خارج وداخل هذا العالم، ذلك الذي نحن بصدد محاولة حل
شفرته وتأكيده بنظرةٍ خاطفةٍ تلوِ أخرى. إذ أن البقاء في العالم السَّابق يَستند
على التوازن، المنظور، التدريب، سعة معرفة وحنكة. وبإمكان الشَّاعر الاجتياز بتلك
الأشياء لوحدها، وبإمكان العديدين فعل ذلك، فبعض الكبرياء لا يُؤذي. ولكن لأي شخصٍ
مقتنع تماماً بـ "الدويندي"، إن العالم اللاحق هو ما يُهم أكثر. عالم،
الذي يتفوق فيه الجُّنون والزُّهد على المَعْقول، حيث المهارة فعالة فقط بقدرِ ما
تضيفه من إقدامٍ ورشاقة للحدس.
وأيما شاعر/ة صادق/ة مع نفسه/ـا، سيـ/تدرك الكفاح المُجاور جداً للدافع من الكتابة. يمكن وصف كفاح الغجر بإعتباره كفاحاً من أجل الاستقرار ومقاومة الذوبان في الثقافة أكبر وأكثر قوة. فهو حرفياً كفاح ضد التواري. قد لا ينطبق هذا كفاح تماماً على الشعراء في المجتمع الأمريكي، ولكن بطريقة أو أخرى هنالك صلة ما بمأزق الغجر. هناك عالمان يوجدان معاً، وهناك عالمٌ يندفع ضد الآخر، ويدَّعي أن الآخر ليس موجوداً أو ليس بحاجة إلى الوجود. ويحدث الدويندي ضجيجاً كأنه يقول بطريقة ما: لن تظل كاملاً مالم تتحرك يوماً تلو آخر، مسودة تلو أخرى، قصيدة بعد أخرى ومن عالم إلى الذي يليه.
*لقراءة المزيد حول مفهوم الدويندي يرجى قراءة ترجمة محاضرة لوركا على الرابط أدناه:
أزال المؤلف هذا التعليق.
ردحذفرائع...ومفيد...
ردحذفبوركت ياتاج الدين...
( الحاجة إلى إيقاف الزمن لإكتناه المبهم، للإيمان بالماهية والذات والكيفية.)...
هنا المثول في الحرم..هنا نوع من حضور وتوحد..هنا صفر..يقابله صفر كبير ( المطلق )
أليس كذلك؟
لماذا لا نفلح في المثول في هذا الحرم ونغترب عن ذواتنا بمجرد حضور الآخر مثلا..أو غيره من الملهيات؟
لأننا هنا نستبدل الظاهرة بالقيمة..وهو مايعني إستبدال المطلق (الله ) بالوقتي الزائل..
كما قال القديس أوغسطين ( نحن لسنا معنيون بمايرى بل بمالايرى لأن الأشياء التي ترى وقتية، أما الأشياء التي لاترى فأبدية)...!
نحتاج هنا للحرية لأنها وحدها تنتج الأعجوبة..تنتج النبوة..ولايتم ذلك الا بالإعتزال والتأمل ..لأن التأمل وحده يملك السبيل الى مد الجسور الى مملكة المحال( المطلق )
لذا سمي الإنسان المتأمل الإنسان الناسك..في مقابل الإنسان المهوس بحرف الشعيرة وليس روحها..
لماذا كان الأنبياء معتزلون ومتوحدون..؟
الغيبة عن العالم هي حضورنا في العالم وحضور العالم فينا...
أشكرك ياتاج الدين...
بمقالك هذا أتحت لي شئ من حضور...
مودتي وعرفاني...
#محمد المبشر
رائع! نتمنى مزيد من التراجم!
ردحذفياسلام يا تجو مبالغة ياخ
ردحذفنسمي ادب الجائحة