الأربعاء، 29 مارس 2017

مسألة المعارضة الأسلوبية في رواية (العطر) لـ باتريك زوسكند

جوديث رايان 1
مسألة المعارضة الأسلوبية
في رواية (العطر) لـ باتريك زوسكند
ترجمة: تاج الدين محمد


إن ظاهرة المعارضة اﻷسلوبية في اﻷدب (Pastiche)2 من وجهة نظر النقد الما بعد حداثي هي عملية التهام جزافي (Random Cannibalization) لمجمل أساليب الماضي، فهي عبارة عن لعبة من التلميحات الجزافية (Random Allussions). في نهاية رواية العطر تم التهام الشخصية المحورية نفسها ولكن ليس قبل أن يُبرز الكاتب عملية التهام لأساليب الماضي مرفوعةً إلى أقصى براعة أسلوبية وهاجة.
 لاحظ العديد من النقاد التلميحات غير العادية في رواية العطر عند صدورها. ولكن اﻷمر الذي كان أقل وضوحاً في الحقيقة هو أن اﻹحالات التناصية تركزت بكثافة على حقبتين من حقب اﻷدب: الرومانطيقية(Romanticism)  والرمزية/ الجمالية(Symbolism/Aestheticism) . يوحي تركيز الرواية على هاتين الحقبتين - اللتين يعتبرهما مؤرخو اﻷدب مرتبطتين ببعضهما البعض - أن هناك الكثير على المحك وأن اﻷمر ليس ببساطة مجرد استيلاء جائر أو تغوُّل جزافي على أساليب الماضي. نودُّ هنا أن نحاجج الرأي القائل: أن رواية العطر لا تعدو أن تكون تمرين تجريبي للنزعة الما بعد حداثية أو مجرد خليط من التلميحات الأدبية الجزافية.
فضلاً عن ذلك، فإن القصة المحكية في الرواية هي عبارة عن استعارة تهكمية (Ironic allegory) للطريقة التي بُنيت بها الرواية؛ فصانع العطر يرغب في محاكاة كل الروائح الموجودة سلفاًعلى غرار مؤلِّف الرواية الذي قام باستيلاءات على نطاق واسع من نصوصٍ موجودة سلفاً. إن طريقته في القيام بذلك تطرح ذات اﻷسئلة على المستويين الجمالي واﻷخلاقي على حد سواء، كما تقوم بذلك الطريقة التي رُكبت بها الرواية نفسها. من المؤكد أن مشهد الالتهام اﻷخير في الرواية - بانحرافاته المفاجئة، غموضاته المتعددة وتأثيراته المفكِّكَة لذاتها هي بمثابة تجسيد نهائي لنوع محدد من معالجة ما بعد حداثية تطرحها الرواية.
ولكن قبل أن نتعقب هذه الحجج فنحن بحاجة إلى أن نجد موطئ قدم في هذا النقاش الزَلِق حول مصطلح ما بعد الحداثة (Postmodernism) الذي تم في هذا البلد [تقصد أمريكا]، وانتشر حديثاً في النطاق المتحدث باﻷلمانية. تردد العديد من مؤرخي اﻷدب في تبني مصطلح ما بعد الحداثة بأية من الأساس ، ولكن هنالك محاسن معينة للاستعمال الحذر الذي يُعرَّف ما بعد الحداثة ويميزها من ناحية، عن النزعة الحداثة العليا(High Modernism)3 وحركة الطليعة الأدبية التاريخية (avant-garde)، ويميزها من ناحية أخرى كإتجاه أدبي معين داخل طيف واسع في اﻷدب المعاصر بأسره. يقوم العمل النموذجي داخل اﻹطار الما بعد حداثي على سمة أساسية ألا وهي: "التشفير المزدوج"(Double Coding) الذي يخاطب كل من النخبة المثقفة والمتلقين العاديين، أو بدقة أكثر يمكننا أن نطلق عليها عملية "التشفير المتعدد" (Multiple Coding) الذي يتحدث مستخدماً مستويات عديدة مختلفة ويتوجه إلى العديد من المتلقين في الوقت ذاته. وبالتطبيق على النصوص اﻷدبية سيعني هذا أن النزعة الما بعد حداثية تحمل في طياتها نوع محدد من التهكم عن طريق بعث رسائل آيديولوجية متناقضة؛ محافظة وثورية في نفس الوقت. يواجه النقاد صعوبة في التعامل مع النصوص الما بعد حداثية ﻷنها تروق لحشد من المتلقين غالباً ما لا تؤخذ أحكامهم على محمل الجد من قبل النُخب النقدية الأدبية، هذا من ناحية، بينما تعمد النصوص أيضاً إلى التلميحات المتعددة والتي هي بصورة رئيسة المجال المناسب للنقد نفسه. تقع كل من المعارضة الأسلوبية والبارودي "المحاكاة الساخرة" في قلب اﻷدب الما بعد حداثي كما لاحظ ذلك العديد من المنظرين. لكننا نقترح على الرغم من ذلك أن اﻷمر لا يتعلق فقط باستهداف نوعين من المتلقين، بل إن الحالة الشاذة للنصوص الما بعد حداثية بوجودها في منطقة ما بين المعارضة الأسلوبية والبارودي تجعلها عصية على التقييم. تعتبر رواية العطر مثالاً جيداً لهذه المشكلة. على الرغم من أن المعارضة اﻷسلوبية تعتبر أدنى مرتبة - ﻷنها مشتقة أو في أحسن اﻷحوال نسخة محايدة أو فارغة من (البارودي) - فإنها تستحق أن توضع في الاعتبار مع أنها لا تعمل على الأرجح كإستراتيجية إيجايبة ذات منطق داخلي خاص بها في ظل ظروف معينة. لإعادة تقييم المعارضة الأسلوبية بهذه الطريقة سيعني هذا إعادة التفاوض حول الحدود بين النوستالجيا والنقد وهو ما أدى إلى ترك العديد من النصوص الما بعد حداثية عرضة للهجوم. يفرض اﻷمر أيضاً مراجعة القيم الأدبية الموروثة من حقبة 1800 القائمة على فكرة العبقرية واﻷصالة والكونية، التي لا زالت تهيمن على فكرتنا عن قيمة العمل اﻷدبي.
هنا سأدَّعي أن رواية العطر لباتريك زوسكند لا تبرز مثل هذه المشكلات فحسب بل هي نفسها بمثابة مساهمة في نقاشها. هو نصٌ أخذ على عاتقه مهمة إعادة التفكير في القيم الأدبية، وأكثر من ذلك، فإنه يرغمنا على مراجعة مفاهيمنا حول كيفية اشتغال النصوص اﻷدبية من كلتا الناحيتين: علاقته بالنصوص اﻷخرى وبالآليات الداخلية للنصوص نفسها. هناك روايات أخرى ما بعد حداثية - مثال بارز لها "إسم الوردة" ﻷمبرتو إيكو - تقوم بنفس الوظيفة، ولكن رواية العطر أكثر دقة في الطريقة التي تُنجز بها مهمتها لذا فهي أكثر صعوبة  في الإكتناه عبر منهجياتنا النقدية المعتادة. دعنا في البداية نلقي نظرة على مسألة التشفير المزدوج أو المتعدد: ندرك من مستهل الرواية أنها تخاطب كل من جمهور السوق العام والنخبة المثقفة؛ إذ أن الرواية صعدت بسرعة لقائمة الكتب اﻷكثر مبيعاً في الدول الناطقة باﻷلمانية في البداية ومن ثم عن طريق الترجمة  في العالم الناطق بالإنجليزية وفرنسا. ومن كان يسافر كثيراً يمكنه أن يلمح الرواية في واجهات عرض الكتب في جميع المطارات. ومع ذلك، توصف الرواية مِن قِبل طلاب الأدب بتقاليد صفوية ويقدرها ذوَّاقة اﻷسلوب لجزالتها اللغوية وجرأة لعبها الفانتازي. لا مندوحة من الاعتراف بأنها وجدت أيضاً الكثير من الناقمين الذين ظهروا بسرعة في هيئات مراجعة الكتب كما في مناقشات خاصة على نحو متساوٍ مع المعجبين. هناك أمر ما في هذه الرواية أَقَضَّ مضاجع الكثيرين.
كانت سمات التشفير المزدوج جلية بشكل مباشر في هذه الرواية كما هو الحال في رواية إسم الوردة: استمتع بعض القراء بحبكة الرواية شبه البوليسية وسلسلة جرائم القتل المثيرة بوضوح التي تنعرج فيها الرواية، قدَّر آخرون التلميح اﻷدبي الذي جعلهم يشعرون بأنهم مثقفين و"على دراية" بصورة ما؛ بيد أن هناك مدى من الاهتمامات تتراوح بين هذين القطبين: القراء الذين انبهروا بالاستدعاء التفصيلي لذكريات مدينة باريس القرن الثامن عشر في مستهل الرواية، والقراء الذين تفاعلوا مع ثيمة العطر كما كانوا ليفعلوا مع شواهد اجتماعية حديثة - غالباً ما تكون مشوقة - وتشدد على الأزياء أو مجالات أخرى للحياة الخاصة، القراء الذين وجدوا ابتهاجاً فظائعياً في انحرافات وعنف تلك الحقبة والشخصية التي تجسدها، القراء الذين تذوقوا اللغة العابقة بالتقاليد الأدبية القديمة، القراء الذين رأوا فيها تحدي متاهة استعارية، وغيرهم الكثير. إن جزءاً كبيراً من جاذبية الرواية يكمن في اقتفاء مسار واحد من هذه المسارات أو نسج العديد منها سوياً؛ وبهذا المعنى فمن السهل أن نرى العطر كرواية متعددة الشفرات.
هنالك مشكلة واحدة تواجه هذا النوع من النصوص وهو مخاطبتها لأطياف عديدة ومختلفة من القراء، بالرغم من أن ذلك هو مصدر قوتها إلا أنه قد يعمل ضدها. إن القراء الذين انحازوا إلى مستوى واحد من المستويات المتعددة للرواية هم غالباً ما ينتهون إلى الإحباط: إذا كانت هذه قصة بوليسية فإن الغموض المتضمن فيها قليل بطريقة تثير التساؤل، أما لو كانت هذه رواية تاريخية فإنها قد فشلت بشكل ملحوظ حال تحول فضاء اﻷحداث من باريس إلى مكان جبلي قاحل في مشهد البيات الشتوي. من غير شك أن أكثر المظاهر أرباكاً في الرواية هو إنها راقت للذين لم يوفقوا في فهم شبكة التلميحات الأدبية والذين تعاملوا مع أسلوبها الرفيع البيِّن كتعبيرعن اﻷصالة اﻹبداعية. تعمد رواية العطر إلى مماثلة العناصر التي شُيدت منها على عكس ما هو موجود في روايات رواد الطليعة الأدبية التاريخيين التي تسمح بترك اﻹقتباسات واضحة فيها باﻹشارة إليها كأجسام غريبة ضمن مونتاج مشيد بوضوح. إن أولئك القراء من مدعي الثقافة الذين اعتبروا الرواية تحفة أدبية دون ادراك بنيتها الاقتباسية، قد أخذوا بتقنيات زوسكند المتقنة في المزج. وهناك آخرين أدركوا لغة شعرية مستقاة تغذي أسلوب الرواية دون أن يفهموا مبادئها التركيبية المعقدة؛ قرأوا السمات ذاتها باعتبارها علامات اشتقاق، عليه فهي عمل إبداعي من مرتبة أدنى. وعلى عكس ما هو موجود في رواية إسم الوردة ﻷمبرتو إيكو حيث اﻹحالات إلى علم العلامات والنظريات اﻷدبية الحديثة اﻷخرى تنبه القارئ إلى وجود مستويات عدة للمعنى وقراءٍ محتملين آخرين، لا تحمل رواية العطر توسيماً محدداً لتشفيرها المتعدد. أعتقد أن هذه المشكلة أقل حدة بالنسبة لقراء الرواية المقصودين من الذين يقرأونها مترجمةً، فبعد كل شيء هناك نذر ليس بالقليل من التلميحات الأدبية هي في اﻷساس منتزعة من نصوص أدبية ألمانية معتمدة، فأي قارئ باﻷلمانية  قد يكون حفظ تلك النصوص من سنوات المدرسة. من المؤكد أن هذه التلميحات لن تمر دون ملاحظة وسيتم تصنيفها على ما يبدو في المراجعات حسب طبيعتها الاشتقاقية أو المقلِّدة. إلى الحد الذي قد نعرّف فيه النزعة الما بعد حداثية على أنها نوع من لعبة متقنة بين النص والمتلقي، فرواية العطر تقدم هذه العلاقة عن طريق دعوتها الضمنية للمتلقي ليتعقب التلميحات المتعددة بالقدر المستطاع.
ربما يشعر القراء الذين تعرفوا على التلميحات لنص آيشندورف Eichendorf4 "ليلة القمر"(Mondnacht) ونص كلاديوس Claudius5 "أغنية المساء" وقصيدة غوتة Goethe  "الترحيب والوداع"(Willkomen und Abshied) - دون الحاجة إلى ذكر اﻹحالات الواضحة لـ (فاوست) - أنهم مخولون لاعتبار زوسكند سليلاً شرعياً لتقليد شعريّ مهم، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى يمكن لمثل هذه اﻹحالات التي ترد بشكل سميك ومتسرع في أقسام عديدة من الرواية أن تطرح سؤال ما إذا كان هناك شيء أصيل حقاً في الرواية. تظل النماذج الرومانسية والغوتية [نسبة للشاعر الألماني غوتة] على مقربة من سطح النص وكذلك قصائد بودلير ورامبو وريلكه، باﻹضافة إلى أعمال أخرى من أعمال النزعة الجمالية مثل أريبور لهوسيمان Huysman. هناك بعض التلميحات أقل مباشرة، على سبيل المثال، العطر الذي يحاول غرينوي [الشخصية المحورية في الرواية] تقطيره من أجساد العذارى هو نسخة مشوهة من أقصوصة "تحلل عذارى" (Auflösung junger Mädchen) لهاينريش فون أوفتردنقنHeinrich von Ofterdingen 6. هناك الكثير من اﻹحالات لمن يود أن اقتفاء الأثر: حواديت الأخوة غريم الأسطورية "اﻷمير الضفدع"، أسطورة كاسبر هاوسر(Kaspar Hauser)، بيتر شليميل(Peter Schlehmih) لكاميسوChamisso 7، أسطورة بروميثيوس، تصور شافتسبيريShaftesbur 8 للشاعر بإعتباره ’الخالق الثاني بعد الرب، سلسلة اﻷحلام في نهاية "رات كريسبل"(Rat Krespel) لهوفمان 9 Hoffmann ، رسومات كاسبر ديفيد فريدريشCasper David Friedrich10، "معلم السحر"  (Sauberlehrlong) لغوتة و"دكتور فاوست" (Doktor Faustus) لتوماس مان، إذا أردنا إيراد القليل منها.
إن اﻷمر اﻷكثر إشكالية بالنسبة لقاريء الرواية بلغتها اﻷصلية ليس كثرة أو قلة اﻹقتباسات المباشرة في النص، ولكن المحاكيات [جمع محاكاة] المنجزة للأساليب اﻷدبية المعتادة. لقد كان إستخدام زوسكند للمعارضة اﻷسلوبية بشكل كبير هو المسؤول عن الاستقبال المرتبك للرواية في البلدان الناطقة بالألمانية. فمعظم لغة الرواية مستلفة مباشرة من نماذج سابقة ولا سيما وصفه للكيفية التي يستخلص بها العطر وهو ما قام بإقتباسه من بودلير وهويسمان حتى على مستوى إختيار المفردات. هل يعتبر هذا غنى تلميحي استثنائي أم عملية اعتماد أدبي صادمة؟
نحن معتادون على مثل هذه المشكلات من الحقبة الحداثة العليا وحقبة الطليعة الأدبية التاريخية حيث المونتاج في حالة ألفريد دوبلن Alfred Döblin11 والمعارضة الأسلوبية عند جويس وبروست والاستيلاء السافر على كلمات الكتاب اﻵخرين في حالة توماس مان، وقد كانت كل هذه الأفعال حينها مادة لنقاشات نقدية ملتهبة. تصالح القراء الحاذقين مع هذه الظاهرة عند الكتاب الحداثيين؛ إلا أن استخدام نصوص أخرى أصبح أمراً إشكالياً فيما يبدو في نصوص ما بعد الحداثة. فإن تهمة السرقة الأدبية (plagiarism) في حالة د.م. توماسD.M Thomas  12 مثلاً أكثر إلحاحاً واستعصاءاً على الحل عنها في حالة توماس مان. على الرغم من أننا قد أدركنا أن تقنية المونتاج الحداثي قد حولت ما بدا سرقةً أدبية إلى شيء آخر كلياً، إلا أننا لا زلنا نشعر بالريبة حيال الاستيلاء الما بعد حداثي على النصوص السابقة. يمكننا أن نعزي هذا اﻷمر إلى نوع الغريب من التلاعبية التي تفتقر إلى النزعة التهكمية لـ ألفريد دوبلن والجدية الرفيعة لتوماس مان.
على الرغم من صعوبة اتهام زوسكند بجريرة السرقة الأدبية، إلا أن هناك أمر مشوِّش حقاً حيال إعادة نسخه للصيغ المألوفة، واستدعاءاته عوالم الماضي اللغوية والأيقونية. في عمل تم الاحتفاء به لإبتداعه الخيالي، نجد أنفسنا في مواجهة عمليات اقتباسات وشبه إقتباسات ومحاكاة مزجت كلها سوياً لتعطينا خليطاً جديداً مدهشاً، حال العطور المصنوعة بدقة التي تدلل على العبقرية الفطرية لغرينوي الشخصية المحورية في الرواية. إن وجود غرينوي ككائن برمائي في الحدود بين الحالة البشرية والعوالم الطبيعية، نتانة الطبقة الدنيا وعبق طبقة النبلاء، التقاليد والإبداع، كل ذلك يجعل غرينوي بكل تأكيد جديراً بحمل إسمه. ليس من قبيل المصادفة أن يكون مشهد الحلم الرئيس في الرواية، الذي كان بمثابة نقطة تحول في نهاية البيات الشتوي لغرينوي في كهف جبل، يحدث في مستنقع ضبابي حيث اليابسة والماء بالكاد منفصلتان.
وحركة الرواية من المعارضة اﻷسلوبية إلى البارودي تحمل أيضاً طابعاً برمائيأ. هناك العديد من القراء عابوا على الرواية نهايتها الميلودرامية، وآخرون استاؤوا من الرواية ابتداءً من مشهد البيات الشتوي. بينما اعتمدت اﻷجزاء اﻷولى بصورة كبيرة على نصوص فرعية للرمزيين الفرنسيين (أشعار مثل النسر أو عطر غرائبي لشارل بودلير) أو نصوص كتاب ألمان من مطلع القرن كـ(الخيميائي) لريلكه وما يخطر على البال من فقرات محددة من "كراسة مالتا لاورس بريغا" (MalteLauridsBrigge)12، يغدو تأثير النزعة الرومانطيقية أكثر وضوحاً أثناء صعود غرينوي قمة الجبل الموحشة خلال حرب السبع سنوات. عندما يسمع القراء باللغة الألمانية أن غرينوى العظيم ".. ثم أبحر بجناجيه المشرعتين هابطاً من سحابته الذهبية عبر أرض روحه الليلية إلى بيته في قلبه..." و"أن عقله كان ثملاً على نحو مدهش، فسرت بداخله ارتعاشات لذيذة"13 سيجدون أنفسهم في طبوغرافيا مألوفة لا تخص مشهد الجبال بل تخص أنطولوجيا الشعر الألماني. أما بالنسبة للقارئ بغير اﻷلمانية فإن التصوير البصري لهذا المشهد يعوِّض  بلا شك عن تلميح لغوي مفقود. إن منبع اعجابنا بموهبة غرينوي وبراعته وإصراره وقدرته على السمو على جذوره اﻹجتماعية – وكلها صفات لا زلنا نُجِلَّها إلى اليوم- تخضع عند هذه النقطة لميلنا المعاصر لإعتبار الرفيع سخيفاً. بعيداً عن كونه كَبوة في تصوير قوة المخيلة، يجب أن يفهم الجزء الثاني من الرواية بوصفه بارودي للتقليد الرومانطيقي، حيث أن الإدراج المُقحم - والأقرب إلى الخراقة - للاقتباسات من الأنطولوجيا يقف كعلامة دامِغة على موقفها البارودي المُتعمَّد.
تتميز نهاية الرواية ببارودية أكثر من مشهد الجبال الذي يعتبر نقطة التحول المركزية في الرواية. إن القوة الكارزمية لشخصية غرينوي وتأثيرها على الجماهير هي محصلة محاكاته العبقرية لعطر البراءة، ومشهد تمزيق أوصاله بصورة شبه أسطورية والتهامه من قبل الجموع المسلوبة - فى قمة تخيليتهم الواعية - يبدو أمراً مختلفاً بحدة عن السرد التاريخي الذي أُستهلت به الرواية. مع ذلك، حالما نستعد لتوجيه تهمة أن هناك صدع ما غير ملتئم في بناء الرواية سنبدأ في التساؤل إذا ما كان النص بارودياً بكل ما تحمله الكلمة من معنى. ﻷي درجة من الجدية ينبغي علينا أن نأخذ المعارضة الأسلوبية في مشهد محاولات غرينوي المبكرة لإستخلاص العطور، ومدى جدية الاستدعاء التاريخي لفرنسا القرن الثامن العشر فى الفقرة اﻹستهلالية؟. ألم تكن الفقرةُ الاستهلالية التحققَ اﻷكثر اكتمالاً لمحاكاةِ سرديةٍ تاريخية ــ سرديةُ شخصيةٍ أرغمتها عبقريتها، للمفارقة، أن لا تترك أثراً في التاريخ - أليس العبقري هو من يضع علامة في عصره/ها؟ (ودونك "عصرغوتة" على سبيل المثال) أليس التاريخ هو حكاية ما يترك آثاراً. بهذا المعنى تعيش رواية العطر وجوداً غريباً على الحدود بين المعارضة الأسلوبية والبارودي، فكلاهما يمثل شكلاً من أشكال تأمل الماضي ولكن بطريقة أدبية بالأحرى بدلاً عن أن يكونا مجرد شكل تاريخي من ذلك التأمل.
ما يميز ملامح المعارضة اﻷسلوبية والبارودية في هذه الرواية هو اعتمادها بصورة كبيرة على أساليب النصوص الفرعية للنزعات الرومانطيقية والرمزية والجمالية، علاوة على عدم إفتقارها إلى إحالات من النزعة الواقعية والطبيعية. من المؤكد أن إحجام زوسكند عن إستخدام التقنيات السردية التي تخص النزعة الحداثية جعلته يتمسك بتقنيات القرن التاسع عشر. على الرغم من ذلك تم تقديم غوته بجانبه اﻷكثر رومانطيقية- بحسب نظريات الذات العبقرية والمبدعة على سبيل المثال- حتى أن التلميح المقتضب لماتياس كلاوديوس ليس خلواً من التوافق مع الروح الرومانطيقية. السبات الشتوي في الجبل أثناء حرب السنوات السبع الذي دخل فيه غرينوي هو المعادل عند زوسكند للنوم التجديدي لدكتور (فاوست) في الجزء الثاني من مسرحية غوتة. توماس مان أيضاً حاضر كإمتداد متأخر لغوتة (عن طريق مسرحيته فاوست) وحتى أن ما أصاب غرينوي من قروح حارقة شبيهة بقروح أيوب، ذات الطابع السفلسي، تذكرنا أكثر بمعالجة توماس مان لفاوست. إن سلسلة التلميحات للشعراء التي بدأت ببودلير وإنتهت بريلكه تؤكد القدرات الخيميائية لفنان مبدع وأهمية الحس الانطباعي اﻵسر كعناصر في العملية اﻹبداعية. هذا اﻹستدعاء المستديم  للتقاليد الرومانطيقية ليس من قبيل المصادفة. حتى أن الذي بدا في بداية اﻷمر كاستعادة لسمات فرنسا القرن الثامن عشر هو في الحقيقية تمظهرات للرومانطيقية. إن النماذج الواضحة للتنوير ليست غير ملوثة بالخرافة؛ على سبيل المثال: بيتر تيريه الذي أعادت له المرضعة الأولى غرينوي الرضيع  وهي مرعوبة "قد يكون مصيره متوقفاً على الدوار."  "التصور الخرافي للناس العوام" لهو نموذج أولي لشخصية الدكتور فاوست غير المحصن ضد مخاوف الشيطانية(Satanism): " فهو لم يدرس اللاهوت فحسب بل اطَّلَع على الفلسفة، واهتم إلى جانب ذلك بعلم النبات و الكيمياء،..."14 . إن هذا البارودي في مونولوج فاوست يدحض نزعة الشك عند بيتر تيريه. وعلى نحو مماثل فإن الماركيز دو لا تيل إسبناز] Marquis de laTaillade-Espinassأحد شخوص الرواية[  كاتب المقالات الطويلة حول "السائل القاتل"fluidum letale  في جريدة سكافاناس الذائعة الصيت؛ ربما يكون هو النموذج المناسب لرجل العلم في القرن الثامن عشر، بيد أن نظرياته حول اﻷرضانية والهوائية هي ما قبل رومانطيقية على نحوٍ جلي. حتى أن وصف مدينة باريس القرن الثامن عشر الوارد في مستهل الرواية والذي كان موضع إعجاب من قبل القراء يعود أكثر لبودلير وريلكه لوصفهم المراحل المتأخرة لوجود المدينة. تماثل العصور الكلاسيكية القديمة عندما يتم إستدعاءها بدرجة أقل النماذج الكلاسيكية لغوتة في "مراثي رومانية" (Roman Elegies)عن مماثلتها لاستعادة الأساطير القديمة في أقصوصة هاينريش فون اوفتردنقن. إختراع غرينوي للعطر الذي يأسر كل من يشمه تذكرنا باﻷغنية اﻵسرة ﻷريون" ]في الأسطورة الأغريقية آريون[ التي حكاها التاجر لهاينريش عندما قابله وهو في طريقه إلى أوسبورغ. عملية تمزيق أوصال بينزيوس Pentheus في اﻹسطورة اﻹغريقية "إرديبيس" (Euripides) كفعل إنتقامي لمحاولته سحب الثقة من الآلهة ديونيسس تم تحوليها في رواية العطر إلى مشهد شبه باخوسي يظهر فيه غرينوي بهيئة رومانطيقية تماماً ليتم إنكاره أكثر من تدميره. أسطورة بروموثيوس - في هذه الحالة هي حكاية غرينوي العظيم الذي يطمح لانتزاع أسرار حاسة الشم من الطبيعة لينافس بذلك اﻹله – قد تمت استعادتها بأسلوب يذكر بالعاصفة والدفع (Sturm und Drang)15 لغوتة. فكرة النفس والحب التي تظهر في شكل قطعة من صورة بواسطة رسام القرن الثامن عشر أنطوني واتاو Antonie Wattau 16 تمت معالجتها في حبكة الرواية بمصطلحات هوفمانية واضحة ...  
 فوق ذلك فإن عرض الذات اﻹنسانية  في رواية العطر محدد بواسطة مفاهيم ما بعد التنوير، وفكرة إنسان بلا رائحة لهي استدعاء لتصور كاميسو في" رجل بلا ظل" و كذلك لتصور "سيدة بلا ظل" (Frau ohne Shatten) لهوفمانستال (Hofmannstahl)17 أو"الأعمى" الذي يتجول في أرجاء مدينة باريس كصدع في كوب شاي للشاعر ريلكه. عندما فرغ غرينوي أخيراً من صناعة عطره والذي مكنه من التخفي على هيئة انسان " اعتقد الناس كما لو أن هناك شخصان"18 لقد أُخبرنا أنه إذا ما تم  إستخدام هذا العطر بواسطة شخص طبيعي فإنه سيبدو كما لو كان شخصين" و إن إستخدمه بشر له رائحة البشر لبدا لنا كأثنين من البشر، والأسوأ من ذلك، ككائن وحشي مزدوج،و ككيان لايستطيع المرء تحديد ملامحه لأنه متداخل ومشوش، كصورة قاع بحيرة على سطح متموج"19. يبدو الأمر كما لو أن فكرة القرين الرومانطيقية تتم رؤيتها من خلال عدسة إنطباعية. أفلح غرينوي في محاولته تقطير جوهر الوجود البشري باستخلاصه من أجساد العذارى؛ ولكن في نفس الوقت، فإن ذلك يتناقض مع وجوده نفسه كلا كينونة بكل ما تحمله الكلمة من معنى. عند هذه المفارقة الأساسية في التصور الرومانطيقي للجواهر وللجوهراني، فإن  وضعت الفردانية المنقسمة موضع التساؤل بواسطة الشخصية المحورية التي لا جوهر لها؛ والتي تتجول في عالم البشر على نحو غير ملحوظ. إذ أن الذات المنقسمة الخاصة بالنزعة الرومانطيقية تم الاستعاضة عنها بالذات المتشظية أو غير المعرفة الخاصة بالنزعة الجمالية. نستنتج من ذلك أن تعريف النزعة الما بعد حداثية "للذات بمصطلحات غاية في الاختلاف عن مصطلحات النزعة الإنسانوية الفردية والجوهر الإنساني" سيكون طمساً للسمات التي تستبقيها الرواية في حقيقة الأمر. ليس من قبيل المصادفة أن يكون مشهد التهام غرينوي الممزق الأوصال هو المرحلة اﻷخيرة التي يعبر من خلالها، مرحلة تتخطى بقصدية إلى ما وراء مفاهيم الذات التي جسدتها الرواية سابقاً. منذ تعريفه المبكر كشخص نكرة من الطبقة الدنيا في القرن الثامن عشر، يمر غرينوي بمرحلة الثنائية الرومانطيقية، ثم مرحلة الذوبان الجمالية لينتهي به الحال كذات ملتهمة (cannibalized self) في المرحلة الما بعد حداثية. بتلك الإشارات المتعارضة  التي تبعثها الرواية لقرائها فإنها موسومة بنزعات ما بعد حداثية جلية. تتغول رواية العطر على عدد كبير من النصوص السابقة لها اﻷمر الذي فيما يبدو يعزز إعجابنا كتعبير نموذجي عن عبقرية شخصيتها المحورية. ومن جانب آخر تحذر الرواية من المخاطر التي تحف بالعبقري والتي عبر ربطها بالسرقة اﻷدبية أو لغة المعارضة اﻷسلوبية يتم تقديمها كأمر أقرب بصورة غريبة لفعل من مرتبة أدنى أو حتى كأمرغير مشروع. علاوة على ذلك، بما أن العطار العبقري هو القاتل في الوقت ذاته تم تقديم الفن كدرب من دروب ما هو إجرامي. مثل هذه الفكرة بالتأكيد ليست بجديدة، فزوسكند يواصل بصورة إساسية في رواية العطر تقليد يصور الفن كفعل إجرامي ينتهي بشقاق متأرجح بين الفن وأخلاقيات المجتمع. لذا فإن غرينوي لا يفهم اللغة المجردة ولا سيما المفاهيم اﻷخلاقية، حيث أنه  كان نائماً طوال فترة الصراعات السياسية في أوروبا التي خِيضت فيها حرب السنوات السبع. ولكن في نفس الوقت فهو يجسد نموذجاً ثورياً لفردٍ من الطبقة الدنيا تمكن من الترقي في الحياة ليندمج على نحو خفي مع طبقة إجتماعية أخرى، على سبيل المثال: قبوله في المجتمع من قبل الماركيز دولا تيلاد إسبنازا بعد تجربة تحوله المفعم هوائياً(air-ventilated). إن تحول منظوره للعالم من الحالة الرومانطيقية إلى العقلانية أثناء وبعد بياته الشتوي في الكهف يوازي حلول السيطرة الإنقليزية والبروسية على مشهد السياسة اﻷوربية عوضاً عن السيطرة الفرنسية في نهاية حرب السنوات السبع. ففي صلب إنعزاله وإحجامه عن الحياة الاجتماعية والسياسية، يجسد غرينوي المفاهيم الجديدة التي بدأت تسود في نهاية القرن الثامن عشر والتاسع عشر. بغرض معالجة هذه المفارقة يمنح زوسكند إنعطاف الثمانينات بشكل خاص للقطبية الثنائية الفن- الحياة، حتى أن تجنب التورط السياسي الوارد هنا هو من نوع خاص، موقف سياسي خطير على وجه الخصوص. ومع ذلك يمكننا ملاحظة اﻹيماءات الجمالية لتقاليد النزعة الرومانطيقية والمابعد رومانطيقية من خلال مسار تتلمذ غرينوي وتسكعاته بأسرها وهو يتعقب اﻵثار المألوفة لما هو مقبول عموماً كجميل. إن المشهد اﻷخير من الرواية الذي يُمزيق فيه جسد غرينوي ويُلتهم من قبل الجموع يُفعِّل المفارقة المركزية في الرواية المطروحة على الحافة بين التجاوز والنقد. وبكلمات أخرى يستخلص لنا زوسكند نوعاً من جوهر الفن و يسمح له في ذات الوقت بالتبخر في الفراغ. بمعنى أن اﻷدب تم جوهرته بالتزامن مع وضعه في سياق أكثر نقدية: سياق مجتمع يمكن أن يشتغل فيه الأدب كتوليف وتهديد. التهام اللحم البشري عبر الحب - هو التأويل الغريب الذي يود الراوي عن طريقه إستقصاء هذه الخاتمة. إنها صرخة نائية من هاينريش فون أوفتردنقن وتحوله إلى صخرة أو شجرة باهرة أو حتى من نص  "المغنية جوزفين"20 التي أختفت وتسامت على ذاكرة شعبها. على الرغم من الوقع المطمئن لخاتمة الرواية " فاﻷول مرة في حياتهم فعلوا شيئاً عن حب"21، فإنها  أيضاً مربكة على نحو كبير. هذا الفصل اﻷخير من الرواية يتحرك في وجهتين في نفس الوقت، وذلك بوضع قيم العناية اﻹنسانية سلفاً موضع الشك عن طريق فقرة بارودية أكثر مباشرة من الفقرة التي تسبقها.
إذا ما عقدنا مقارنة بين التأثيرات المربكة لهذه الخاتمة واستخدام جيمس جويس للمعارضة اﻷسلوبية في رواية (يوليسيس) من ناحية، واستخدام المعارضة اﻷسلوبية  في ماريوس اﻷبيقوري لباتر22 سنرى بسهولة أكثر السمة الما بعد حداثية المحددة لتوظيف زوسكند لهذه التقنية. في الوقت الذي نجد فيه المعارضة الاسلوبية عند جيمس جويس إبتعادية، يهدف باتر ﻹبراز التماثلات، فعند جويس هنالك فجوة بين أدب الماضي العريق وأدب الحاضر اﻷكثر عادية، وعند باتر تشع نزعة جمالية عابرة للتاريخ من خلال الماضي إلى الحياة اليومية للراوي؛ معارضة جويس اﻷسلوبية  بارودية بالضرورة، في مقابل أثر السمو واﻹحتفاء في معارضة باتر الأسلوبية. تخلتف تقنية زوسكند عن هذين الحدين الأقصيين. باستدعائه للنصوص اﻷدبية المعتمدة يرى زوسكند الشاعر ككيان شبه إلهي وأعماله كصروح قائمة على بناءات خيالية مستقلة، تبين لنا رواية العطر إلى اي مدى لا نزال مرتبطين بالقيم التي يمثلها الأدب المعتمد، وذلك عن طريق وضع إستدعاءات أدب الماضي الذي لا يزال مبجلاً في سياق ينزع عنه أصالتها ليبدو مشوهاً في الوعاء الذي دُمج فيه. تضع رواية العطر استخدامنا لهذه الشذرات كمعايير انسانوية موضع التساؤل في وقتنا الحاضر. ان تقنية المعارضة اﻷسلوبية الموجودة في رواية العطر لهي إستراتيجة متعمدة لها أغراض آيديولوجية مهمة لاسيما في الدول الناطقة باﻷلمانية حيث اﻷدب المعتمد الذي تعيد بعثه وإنتقاده لم يخضع بعد لنوع من التحليل البحثي الذي تم في هذا الجانب من اﻷطلنطي.
ـــــــــــــــــــ
الهوامش
1. أستاذة الأدب الألماني و المقارن بجامعة هارفارد.
2. تعتبر المعارضة الأسلوبية أحد أوجه التناص أي  تقاطع النص أسلوبياً مع نص آخر سابق أو محايث له، فالمعارضة الأسلوبية تختلف عن البارودي الساخر لموقفها الإحتفائي أو المحايد على الرغم من أنهاغالباً ما تكون هزلية الطابع.
3.الحداثة العليا: يستخدم هذا المصطلح للإشارة للمرحلة المحورية في الحداثة الأدبية التي حدثت في العشرينات،عندما صدرت الأعمال الأساسية لكل من ت.س إليوت، جويس، باوند، وولف، مان، كافكا، بروست وأندريه جيد. هناك إجماع كبير من قبل النقاد حول معنى  المصطلح، إلا أنهم يختلفون إختلافاً كبيراً حول أهمية وقيمة الأعمال التي تمثل هذه الحقبة. حيث يرى المؤيدون أن أعمال نزعة الحداثة العليا تمثل ذروة الأدب بوصفه فناً راقياً، بينما يَصِمها آخرون بالصفوية، الصعوبة، البطرياركية، الكولنيالية والرجعية. فوق كل هذه الأحكام، إلا أن السمات العامة للحداثة العليا جمالية في الأساس.  
4. جوزيف فون آيشندورف (1857-1788) شاعر ألماني من الحقبة الرومانطيقية.
5. ماتياس كلوديوس (1815-1740) شاعر ألماني من الحقبة الرومانطيقية.
6. شخصية أسطورية من العصور الوسطى.
7. آديلبيرت فون كاميسو (1781-1838) شاعر ألماني أشتهر بشخصية شليميل الرجل الذي باع ظله.
8. أنطوني اشلي كوبر (1671—1713) فيلسوف إنقليزي حاصل على لقب إيرل، كانت لأفكاره الفلسفية تأثيراً كبيراً على فلاسفة القرن الثامن العشر في كل من إنقلترا، فرنسا وألمانيا.
9. أي.تي.أى هوفمان 1776- 1822 كاتب وملحن ورسام كاركتير وقانوني بروسيإ إرتبط إسمه بالرومانطيقية، يشتغل على الفانتازيا والرعب.
10. كاسبر ديفيد فريدريش  (1774-1878) رسام ألماني من الحقبة الرومانسية.
11. ألفريد دوبلين (1957-1878) روائي ألماني أشتهر بروايته برلين ألكسندر بلاتس.
12. مالتا لوريس بريغا: الرواية الوحيدة للشاعر النمساوي راينر ماريا ريلكه صدرت 1910 في باريس عندما كان يعيش ريلكه هناك.

13.الرواية، ترجمة نبيل حفّار، دار المدى، ص 122
14. الرواية، ترجمة نبيل حفّار، دار المدى، ص 16

15. العاصفة والدفع حركة أدبية نشأت في القرن الثامن عشركانت تشدد في موضوعاتها على الطبيعة و الأحاسيس الفردية، كما كانت تحاول  معارضة  التقاليد العقلانية عصر. يعتبر الشاعران الألمانيان غوته وشيللر من أبرز أعضاءها.
16. أنطونيوني واتاو (1684-1721) رسام فرنسي أشتهر ببراعته في التلوين وقدرته الفائقة على تصوير المشاهد الحركية في لوحاته.
17. هوغو لاورينتس هوفمان فون هوفمانستال (1874-1929) روائي، كاتب اوبرا، مسرحي وكاتب مقالات نمساوي.
18. الرواية، ترجمة نبيل حفَّار، ص 142
 19. الرواية، ص 142
20.المغنية جوزفين وشعب الفئران: من آخر القصص القصيرة التي كتبها كافكا، صدرت بعد فترة وجيزة من وفاته.
21. الرواية، ص 239
22. فالتر باتر  (1739-1894)روائي و كاتب مقالت إنجليزي أشتهر برواية ماريوس الأبيقوري.

الأربعاء، 22 مارس 2017

لغةُ الطُّيورِ، ريتشارد سايكن


ترجمة: تاج الدين محمد








                       









 رأي الرَّجلُ طائرًا ووجده جَميلًا. كان طائر يحمل أغنية بِداخلهِ، وريش. كان الرَّجل يَحسُ أَحيانًا  مِثل الطَّائرِ وتارة  كصَخرةٍ  صلبةٍ، لايمكنُ اجتنابُهاــ ولكنه  يَحسُ غالبًا أنهُ مِثل طَائرٍ أَو إِن هُناك طائرٌ بِداخلهِ أَو شيءٌ ما يُرفرفُ بِداخلهِ مِثل طَائرٍ. دام هذا لِوقتٍ طَويلٍ.
2
رَأي رجل ما طَائرًا وأَراد رسمه. المشكلة، لَو كَانت هناك واحدةٌ، إِنها بِبساطةٍ في السُّؤالِ. لمَ يرسم طائرًا؟ لمَ القيام بأي شيءٍ من الأَساسِ؟ ولكن الأمر ليس في الكيفية، لأن الكيفيات سهلة ـــ تسلسلٌ أو تتابعٌ، قدمٌ تلو آخرــ ولكن من الناحية الوُجودية لِمَ كُل هذا الاكتراثُ، ما جدوى ذلك؟
وكَونك تُريدُ فقط أَنّ تَرسمَ طَائرًا، هلْ يمكن حقًا أنَّ يرسمَ طائر، هذا لا يَعني أنك أنجزتْ شيئًا. من الذي بإمكانهِ أنّ يقيسَ المَسافة بين التَّجربة وتَمثيلها؟ من الذي يتحكم في مَساراتِ التَّساؤلِ؟ نحن نستطيع، أي شخصٌ يستطيع.
طائرٌ أَسودٌ، قال الرجلُ، فلتكن إذًا، مفهرسًا ومعياريًا. لكنهُ لم يكن طَائرًا، بل رجلًا في ثيابِ طائرٍ، أكتافٌ زرقاء عوضًاعن الريشِ، لأنه لا ينظر إلى طائرٍ، طائرٍ حقيقي، عندما يرسم، بل ينظر إلى قلبه، وهذا مستحيل.
ما لمْ يكن قلبهُ مجازًا لقلبهِ، مثلما أن أي شيء مجازٌ لنفسه، لذا فإن النظر إلى اللوحة مثل النَّظر إلى طائر ليس هناك، بأغنيةٍ في حلقه لا تريدُ أن تسمعها، ولكنك ترسم على أي حالٍ.
اليدُ صوتٌ بإمكانه أن يغني ما لن يغنهِ الصَّوتُ، وتريدُ اليدُ أن تفعل شيئًا مفيدًا. أحيانًا، في الليلِ، قبل أن أخلد إلى النومِ، أفكر في قصيدة قد أَكتبها يومًا ما، عن قلبي، يقولُ القلبُ.
3
نَظروا إلى الحيواناتِ. نظروا إلى جدرانِ الكهفِ. هذا كان من قبل، هؤلاء رجالٌ مختلفون. رسموا في وجودِ ضوءِ شعلة: معظمها كانت حمراء، أحيانًا سوداءـــ ماموثٌ، أسدٌ، حصانٌ، دبٌ ـــ أشياءٌ على الجدرانِ، لوحاتٍ جانبية أو مركبة ذات ديناميةٍ ونشاط.
لم يكونوا حيواناتًا، بل بدوا مثلها، حيواناتٌ بالقدر الذي يجعلُ الأمرَ مُربكًا. قصدوا شيئًا ولكن المعنى كان زلقًا: لم يكن هناك ولكنه بقى، بدا كأنه شيئًا ولكنه لم يكن شيئًا ـــ شيءٌ ثانٍ يتبعُ حزمةً ثانيةً من القوانينِ ـــ لقد فات الأوان: تأثيرهم عليه لم يعد مطلقًا.
ما هو الحي وماهو غير ذلك وما الذي ينبغي أن نفعل حياله؟ نظرياتٌ عن طبيعةِ الشيء والروح. لأن البشر يفنون. الخوف من أن لا شيء يبقى على قيد الحياة. الخوفُ الأعظمُ أن شيئًا ما يفعل
سماءُ الليلِ شاسعةٌ وعريضةٌ.
احتشدوا، كتفٌ بكتفٍ، رسموا أنفسهم في جماعةٍ، جميعًا بمعزل عن البقية. نظروا إلى السماءِ والطينِ، وإلى إيديهم في الطينِ، وإلى أصدقاءهم الموتى في الطينِ. دام هذا لوقتٍ طويل.
3
أن تكون طائرًا أو سربًا من الطيورِ يفعلون شيئًا سويًا، واحدًا أو كثيرًا، زرزورًا أو سربًا. أن تكون رجلًا على التلِ أو كل الرجال على كل التلالِ، أو نصفَ رجلٍ يرتجفُ في سربِ نفسه. هذه بعض الخيارات.
سماءُ الليلِ شاسعةٌ وعريضةٌ
لرجلٍ ما طائرين في رأسه ــ ليس فى حلقه، ليس في صدره ـــ ويُغنى الطائران طوال اليوم دون توقف. فكر الرجل: "أن أحد هذه الطيور ليس طائري". وافق الطائران.        

الثلاثاء، 15 نوفمبر 2016

قصة قصيرة: دعني أوعدك، مورلي كالاقهان

ترجمة: تاج الدين محمد














ظلت أليس تعود إلى النافذة، تقف وأنفها ملتصق بزجاجها. كانت تراقب المطر وهو يتساقط والرصيف وهو يلمع تحت مصابيح الشارع. بدت بفستانها الأسود الكريبي وياقتها البيضاء الكبيرة الشبيهة بياقة راهبة وشعرها المشدود بإحكام للخلف من وجهها المتوتر- تقريبًا لطيفة على نحو وقح.
بدء الجليد يتساقط في وقت سابق من هذا المساء، من ثم راحت تمطر رذاذًا، أما الآن أصبح المطر كأنه مطر متجمد.إذ تقف أليس عند النافذة تمنت لو تُغطَى الارضية بطبقةٍ رقيقة من الجليد، أن تظل صفحة بيضاء غير مشوشة حتى يأتي جورجي بخط آثار اقدامه الوحيد واضعًا علامات مساره إلى بيتها. على الرغم من أنها كانت ترى بملئ عينيها، إلا أنها بدأت تحلم بمساء بارد على نحو قارس، وبجورجي مرتديًا شاله الأحمر بوجهه المرتعش يندفع إلى الداخل، يفرك يديه وذراعيه مفتوحتين. بيد أن الشفشاف راح يدفع الريح بهدوء على زجاج النافذة. فكرت وهي تتنهد: إنه لن يأتي في مثل هذا الطقس. لكنه كان سيأتي لولا الطقس لا استطيع حقًا أن أتوقع مجيئه الليلة. خطت مبتعدة عن النافذة وجلست.
أخذ قلبها في الخفقان ببطيء وصعوبة بداخلها فكانت بالكاد تستطيع الحراك، لأن شخص ما يطرق الباب. صرخت وهي تفتح الباب:
ــ "جورجي، فتاي العزيز، أنا سعيدة جدًا بمجيئك". ومدت يدها لتعينه على خلع معطفه المبلل جدًا.
بدا طويلًا بمعطفه المحزم بخفة وكان له وجه ناعم ودائري لن يشيخ أبدًا. جعلت الريح وجهه مبللًا ومتوهجًا، لكنه كان متجهمًا لأنه لم يكن مرتاحًا في ملابسه الرطبة. أبعد شعره الجميل المتموج عن عينيه وقال:
ــ "إنها ليست ليلة مناسبة لزيارة". قام بالجلوس؛ كان صامتًا ومحرجًا بعض الشيء من حماستها، نظر حول الغرفة وكما لو كان يفكر إنه كان مخطىءً في المجيء ولم يتوقع أن يكون مرتاحًا للغاية. "إذا لم يتساقط الجليد كان الجو سيكون رديئًا في الخارج في مثل هذه الليلة. ربما لم تفكري في مجيئي".
"وودت لو تجيء ولأنني وددت ذلك، فكرت أنك ستأتي على أرجح". قالت بصراحة.
بدا أن أيام كثيرة قد مرت وهي لوحدها مع جورجي فهي تود الآن أن تمسك يده بيديها وتقبله. لكنها أحست بإنها في غاية الخجل. في السنة الماضية كانت تعرف إنه كان ينتظرها بلهفة لتقبله.
"أليس" قال على نحو مباغت.
" ما الذي يضايقك يا جورجي، لتكون عابس الوجه هكذا؟
"ما الأمر الذي تريدينني فيه؟ لقد قلتي أنك تريدين التحدث عن شيء محدد".
" يا له من فضول، أظن أنك ستجلس هناك عاجزًا عن الاستقرار حتى تكتشف الأمر". قالت مجيبة.
كانت تعلم بقلقه، لكنها كانت تتظاهر لنفسها على أنه كان نافذ الصبر وفضولي. لذا كان وجهها الشاحب الجميل ينبض بإبتهاج دافئ سري عندما ذهبت عبر الغرفة إلى الصندوق ذو الأدراج وأخرجت صندوقًا كرتونيًا وأعطته أياه بعد أن قامت بإنحناءة بناتية:
ــ "أتمنى أن تعجبك. يا حبيبي" قالت بإستحياء.
"ما هذا، ما المغزى من هذا". قال جورجي وهو يفك الصندوق ويخرج الغطاء الورقي. عندما علم إنها أعطته شيئًا أصبح محرجًا محبطًا للغاية ليتفوه بأي شيء، لكنه لم يكن يريد جرحها، فحاول أن يكون متقدًا بالحماس: "يا إلهي، أنظري لهذا! سترة عنق بيضاء، لو أرتديتها سأبدو كممثل سينمائي في وقت فراغه، هل ينبغي علي إرتداءه الآن يا ألـ. " وهو يبتسم لها إبتسامة عريضة خلع معطفه وأرتدى السترة البيضاء فوق قميصه: هل أبدو أنيقًا، هلا أتيتي بمرآءة يا ألـ؟
امسكت أليس بالمرآءة امامه تنظر إليه بذات التعبير المرهف للحب الخالص في كل مرة، ثمة أحساس بداخلها، قناعة لم تجرؤ بالكاد أن تحلم بها. السترة ذات العنق الطويل جعلت رأسه يبدو كـرأس (فون)*.
"إنه رائع يا ألـ". لكنه لم يكن بوسعه الإستمرار في ارضائها بحماسه، أصبح محرجًا أكثر: "لا ينبغي عليكي أن تعطيني هذا، يا ألـ لم أكن أتوقع أي شيء من هذا القبيل عندما اتصلتي بي لأنك قلتي أنك بحاجة إلي".
"اليوم عيد ميلادك، أليس كذلك يا جورجي؟ "
"تخيلي أنك تتذكرين ذلك. لكننك لا ينبغي عليكي أن تزعجي نفسك بهدية عيد ميلادي الآن".
"حسبت أن السترة ستعجبك. وجدته مساء اليوم. كنت أعرف أنها تليق بك".
"ولكن ما المغزي من أن تعطيني أي شيء، يا الـ؟ " وراح إحساسه بالإحراج والغرابة يزداد.
"هل تظن أنني كنت بحاجة لذلك؟ "
"لا ينبغي عليكي تبديد مالك بسببي".
"أتظن أنني لدي أمر أقوم به". قالت لتغيظه.
"ما المغزى من ذلك، يا الـ؟ "
"وجدت شيئًا آخر، شيئًا كنت تريده بصورة ماسة. هل تتذكره؟ حاول أن تخمن! "
"لا يمكنني ان اتخيل". لكن وجهه إحمرّ فإبتسم بغرابة لأنه أُجبرعلى هذا النحو على تذكر زمن كان يحس بعدم الراحة عندما يتذكره الآن.
كان يضحك بصوت مبحوح يبرز لها أسنانه الصغيرة المتساوية، لأنها كانت سعيدة لتمكنها من الصمود أمامه وإغاظته كما كانت تفعل من قبل. كانت تتحرك ببطيء نحو الصندوق ذو الأدراج، أخرجت في هذه المرة صندوق ساعة جلدي صغير. وقالت:
"تفضل! "
"ما هذا، أريني إياه! " لم يكن بمستطاعه تحمل كونه فضوليًا. قام من مكانه. لكنه عندما أمسك بالساعة في يده، اضطر على هز رأسه لإخفاء إحساسه بالرضا.
"إنه أمر مضحك الطريقة التي تعرفين بها كم كنت دومًا أريد مثل هذا الشيء، يا الـ". طوال حياته كان يود أن يحصل على ساعة يد مثل هذه، لكنه لم يكن يتوقع إنه بمستطاعه شراءها، لذلك كان سعيدًا الآن فإبتسم بإخلاص.
ولكن بعد لحظة وضع الساعة على المنضدة بحزم، وكان محرجًا ليتكلم. خطا نحو جدران وكان يصفر. عندما ما كان يقف عند النافدة عرفت إنها كان مضطربًا: أنت فتاة عظيمة، يا الـ. لا أعرف شخصًا مثلك". بعد أن توقف أضاف: "ألن يتوقف المطر؟ على ان أن أنصرف".
"أنت لن تذهب الآن يا جورجي، أليس كذلك؟ "
"بلا، لدي ميعاد مع أحدهم. لابد أنه في إنتظاري الآن".
"لا تذهب يا جورجي، أرجوك لا تفعل". قالت ذلك وأمسكت بكم المعطف الذي أخذه جورجي من على الكرسي. لقد كان مستحيًا من أن يذهب، ولا سيما إذا رفع الساعة من على المنضدة، ولكنه أحس أن بقاءه يعني بداية كل شيء من جديد. لم يعلم ما الذي يفعله حيال الساعة. لذا مد يده بتردد ورفع الساعة. كان يعلم أنها تراه.
ــ "إذن أنت تأتي هكذا وتذهب فحسب".
ــ "عليّ الذهاب".
"هل لديك فتاة أخرى"؟
"كلا، لا أريد واحدة أخرى".
"وفوق ذلك، لن تبقى معى لبرهة من الوقت"؟
"لقد إنتهى الأمر، يا ألـ، لا أدرى ما بكِ. أتصلتي بي وكنت تريدينني لأزورك للحظات".
"ليس عسيرًا عليك أنك تحب النظر الى الساعة أكثر من النظر إلي". قالت بنكد.
"خذي حسنًا، لو أنك لا تريدنني أن آخذ الساعة". وبإرتياح، وضع الساعة مجددًا على المنضدة وإبتسم.
حدقت إلى صندوق الساعة للحظة، كادت أن تعمى من فرط الإحباط، كانت تمقت إبتسامته المريحة، ثم صرخت: " أنت تحاول إهانتي فحسب. أبعده عن نظري". أرجحت كفها عبر المنضدة وضربت صندوق الساعة فهوى بالأرض وإرتطمت الساعة بالحائط، فتهشم الزجاج. محاولة ألا تجهش بالبكاء أحكمت قبضتي يديها وحملقت في وجهه. لكنه لم ينظر إليها حتى. بفم فاغر ومتدلٍ كان ينظر بلهفة إلى الساعة. لانه أدرك كم كان بحاجة إليها الآن يراها تتهشم على الجدران. وعندما رفع بصره نحوها، كانت عيناه الزرقاوتان بريئتان بإخلاص إحباطه التام.
"جي، ألـ ’" هذا كل ما قاله.
بدأت تفقد السيطرة على غضبها، أحست بحجم الأحباط الذي كان فيه. فشعرت بالعجز: "لم يكن ينبغي علي أن أفعل ذلك يا جورجي"
"لقد كان أمرًا جنونيًا أن تفعلي ذلك. لقد كانت تحفة. لمَ فعلت ذلك".
"لا أدري لماذا". جثت على ركبتيها وأخذت تجهش بالبكاء.
"ربما لم لم تتهشم بالكامل". قالت متلعثمة وهى تتحرك على ركبتيها وتلتقط قطع الزجاج بعناية. كانت تمسك بقطع الزجاج بيدها لكن عيناها تطرفان لذا لم يكن بوسعها رؤيتها. راحت تفكر ’كان أمرًا جنونيًا أن افعل ذلك، إنه غير مجدي. ليس بوسعي أنا أجعله يعود إلي. لماذا يقف هناك هكذا؟ لماذا لا يتحرك؟ ’ في نهاية الأمر رفعت بصرها ونظرت إلى ذقنه الناعم الدائري أعلى عنق السترة البيضاء، فكانت عينيها العابستين تلمعان من الدموع. عندما نظر إليها دون أن يتفوه بكلمة أو يتحرك، بدا أن كل شيء قد أختلف. كان ينظر كليهما بيأس بائس إلى قطع الزجاج التي كانت في يدها. في تلك اللحظة عندما كان ينظران، بدءا يتشاركان أحساس عام ومرير بخيبة الأمل جعلت جورجي يصمت صمتًا بالغًا، ويقترب منها: "لا بأس، يا ألـ". قال برقة مرتبكة: "رجاءًا أنهضي! "
"كلا، أبعد عني. أتركني وشأني! "
"ينبغي عليكي النهوض من هنا ليس بوسعي الوقوف هناك وأنت هنا".
"أوه، أنا أعرف أنني شريرة وغيورة. أتمني أن يهزني شخص ما ويجرحني، أنا قطة صغيرة".
"كلا، أنت لست كذلك، من الذي يجرؤ على هزك، أرجوكي أنهضي". قال وهو يضع يده على كتفها.
"قل أنك ستبقى يا جورجي". قالت وهي تمسك بيده، الجو دافيء بالداخل ومذر بالخارج، أصغ لصوت الرياح فحسب، هل تسمعه؟ سوف أحضر لك شيئًا تأكله. لا تريد الذهاب أليس كذلك؟ "
"ليس اكثر سوءًا حينما أتيت". بيد أن رقته المفاجئة إزاءها جعلته يشعر بالإضطراب. لقد كان يعرف أليس جيدًا منذ زمن طويل، أحد فتياته اللائي متأكد من أنه يمكنه ان يهجرها حيث يشاء، لكنه أحس أنه لم ينظر إليها كما ينبغي، كأنه لم يرها من قبل. لم يتعرف عليها. راح دفيء حبها يرعبه. بدا عيناها العابستان، ووجها الشاحب البيضاوي قريبان جدًا منه حتى إنه مد يده بتردد ليلمسها ويتحسس كل الكائن المتوهج تحت فستانها. ولكن الإرتعاش الحاد بداخله جعله يحبس أنفاسه ويدمر كل ثقته القديمة. قال متلعثمًا: "جي ألـ، لم افهمك جيدًا أبدًا، ليس بهذه الطريقة، لا أريد الذهاب، انظري كم أريد البقاء! "
"جورجي أسمعني! سوف أحضر لك تلك الساعة أو سوف اشتري لك واحدة جديدة، سأقوم بالإدخار من أجل ذلك. أو سأشتري لك أي شيئًا آخر تريده" قالت بلهفة.
"لا تفكري في الأمر! أحس بأني مثل متشرد" قال بخجل.
"لكنني أود ان أفعل ذلك بشدة، ومتشوقة جدًا للقيام بذلك. بوسع كلانا التشوق لذلك؛ ارجوك دعني أوعدك بذلك.
كانت لاتزال رابضة على السجادة؛ حدق في وجهه العابس الجميل أعلى ياقتها البيضاء الشبيهة بياقة الراهبات وعينيها المتضرعتين: "تبدين جميلة في هذه اللحظة، يا ألـ. تبدين كشيء جامح بصراحة".
مأسورة بالسعادة إبتسمت. ومن أعماقها كانت تتوق أن تعطيه المزيد.وفكرت، لو كان هناك المزيد لكان بوسعها منحه. ليتها تمنحه كل شيء ولا تترك لنفسها أي شيء.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*فون: إله الحقول والقطعان عند الرومان
 

الجمعة، 16 سبتمبر 2016




أنهضي، هلا نهضتي؛ هاينريش بول

ترجمة: تاج الدين محمد














لم يعد بالإمكان قراءة إسمها المنقوش على الصَّليب المهشم، لقد حُطم غطاء التابوت، كما أن التلة التي كانت هنا قبل أسابيع قليلة استحالت الآن إلى حفرةٍ تجمعت فيها الورود الذابلة القذرة و أنشوطاتها المتسخة و أشواك الصنوبر وأغصانٌ بلا أوراق مكوِّنةً كتلة بشعة. أما أعقاب الشموع لابد إنها قد سُطي عليها حتماً.
ــ"أنهضي، هلا نهضتي!!" قلت بصوت خافت. فاختلطت دموعي بالمطر، المطر الرتيب الباعث على التذمر، الذي ظل ينهمر منذ أسابيع. ثم أغمضت عيوني: لقد خفت أن تتحقق أمنيتي. خلف أجفاني المغمضة كنت أرى بوضوح غطاء التابوت المائل الذي كان موضوعاً على صدرها الآن، مضغوطاً بكومةٍ من التراب الرطب المندفع على التابوت ببرودٍ وجشعٍ بجوانب صدرها.

انحنيتُ إلى أسفل لأرفع زينة القبر المتسخة من الأرض اللزجة، فأحسست فجأة كأن هناك شبح خلفي، خرج من الأرض بسرعة وعنف، كأنه خارجٌ من نار مغطاة ترفع اللهب من حينٍ لآخر. فوضعت علامة الصَّليب على نفسي بسرعة ورميت باقة الورد من يدي وهممت بالمغادرة. انبثق الغسق الكثيف من الممرات الضيقة المحاطة بالعشب الكثيف. ولمَّا بلغت الطريق الرئيسي، سمعتُ صوت ذلك الجرس الذي قرعه أحد زوار المقبرة، ولكنني سمعت وقع خطوات قادمة من العدم، و رأيت أيضاً شخصاً في مكانٍ ما، كنت أحس فقط بتلك المسوخ خلفي، كانت بالطبع أشباح حقيقية تلك التي تتعقبني...

أسرعت في الخطو، صفقتُ البوابة الصدئة ذات الخشخشة، عبرتُ ممر الزهور الدائري الذي سقطت عليه عربة القطار المقلوبة التي تحجز ماء المطر ببطنها  لترتطم وداعة المطر اللعينة بصندوق الصفيح. تغلغل المطر بأحذيتي لوقت طويل لكنني لم أكن أشعر لا ببردٍ أو رطوبة. حمى موحشة تتعقب دمي حتى  الرؤوس الخارجية لأطرافي، بجانب الخوف الذي يَهب علي من الخلف، شعرت برغبةٍ غريبة في المرض والأسى.

في وسط الأكواخ البائسة التي تنفثُ مداخنها الدخان الردئ، السياجات الموحشة المكدسة التي تحيط بالحقول الداكنة، بدت أعمدة التلغراف البالية كأنها تتأرجح مع الغسق، كنت أشق طريقي من خلال أماكن اليأس اللانهائي لضاحية المدينة، لامبالٍ بالخوض في الوحل، ما زلت أخطو بسرعة نحو الصورة الخيالية الممزقة للمدينة، التي كانت تستلقي ممدة في سحب الغسق القذرة كمتاهةٍ للحزن.

 أنقاضٌ داكنة و ضخمة تطل من اليمين  واليسار، تغلغل بداخلي ضجيج خانق صادر من النوافذ ذات الإضاءة الخافتة؛ مرة أخرى حقول من الأرض الداكنة، منازل وفلل متداعية. مازال الرعب علاوة على الحمى يلتهماني بقسوة، لأنني كنت أشعر بأمر فظيع: خلفي كان الظلام يلف المكان، بينما يتكثف الغسق أمامي على نحوٍ عادي، خلفي كان الليل قد حل. كنت أربط الليل خلفي، أجره إلى حدود الأفق،أي مكان تطأه قدماي يصير مظلماً. لم أر شيئاً من كل هذا، لكنني كنت أعرف ذلك: من مكان قبر حبيبتي وإلى، حيث كنت أشكو من الأشباح، كنت أجر خلفي حشد أشرعة الليل القاسية.

 بدا العالم خالٍ من البشر: ضاحية المدينة الفظيعة مليئة بالقذارة في كل الجوانب، تلال صغيرة من الأنقاض. المدينة التي بدت بعيدة، أصبحت الآن قريبة بصورة مرعبة. كنت أتوقف عن الحركة لبعض الوقت، وكنت أشعر كيف يتصرف الظلام خلفي، لقد كان يحتشد ويتردد بإزدراء، وبعدها يدفعني إلى الأمام على نحو لطيف و إجباري.

الآن أشعر أيضًا بتدفق تيارات العرق من كل أنحاء جسدي، أصبح مسيري مرهقًا، غدا العبئ ثقيلًا، العبئ الذي كنت أجره، حمل العالم المربوط خلفي بحبالٍ خفية، ربطته خلفي، أسحبه و يسحبني إليه، كأنه عبئٌ منزلقٌ يَدفعُ بغلًا هزيلاً إلى الهاوية حتماً. دفعتُ بكل ما أوتيت من قوة عكس إتجاه تلك الحبال الخفية، صارت خطواتي قصيرة وغير ثابتة، رميتُ بنفسي في الحبال الخانقة كحيوانٍ يائس: يبدو إن قدماي غاصتا في الأرض، بينما كانت هناك بعض من القوى لأحافظ به على وضعية جسدي العليا كما ينبغي. حتى شعرت فجأة أنه ليس بإمكاني تحمل ذلك. وجدت نفسي في موضع كنت مضطرًا على التصرف، العبئ كان فعالاً جداً، لدرجة إنه كان يقيدني في المكان، فحسبت أنني فقدت السيطرة، قمت بالصراخ و أرتميت في ذلك اللجام المُتخيل، فسقطت على وجهي، أنقطع الرباط، فكانت هناك حرية لذيذة  خلفي و كان أمامي براحٌ مشرق تقف فيه الآن زوجتي الحبيبة، هي التي كانت ممدة خلفي في قبر فظيع تحت الورود القذرة، كانت هنا، وقالت لي بوجه مبتسم: أنهض، هلا نهضت... لكنني نهضت الآن و إني ذاهبٌ لرؤيتها...


الأحد، 11 سبتمبر 2016

حذائي؛ شارلس سيميك


ترجمة: تاج الدين محمد
















حذائي، الوجه السري لحياتي الداخلية:
فاهان فاغران بلا أسنان،
جلدا حيوانٍ متحللان جزئياً
تفوح منهما رائحة  جحر جرذان.

أخي وأختي اللذان لقيا حتفهما عند الولادة
لا يزالان يعيشان بداخلكما،
يقودان حياتي
نحو براءتهما المبهمة.

بما تفيدني الكتب
طالما بالإمكان أن أقرأ فيكما
أنجيل حياتي على الأرض
بل ما وراء ذلك، الأمور القادمة؟

أرغب في الأعلان عن الدين
الذي أبدعته لتواضعكما الكامل
وفي الكنيسة الغريبة التي سأبنيها،
ستكونان أنتما المذبح.

زاهدان وأموميان، أنتما تطيقان:
قرابتكما لثيران، لقديسين، لرجالٍ مدانين
بصبركما الصامت، ترسمان
الصورة الوحيدة الصادقة لنفسي.

الجمعة، 9 سبتمبر 2016

آنا وولدمان؛ قصائد


ترجمة عن الإنجليزية: تاج الدين محمد















أبياتٌ للنِّعمةِ الجَّديدةِ المُدهشةِ

أَطربُ لنعمة كل الشعراء الذين يكتبون
كلماتهم 
حروف حلوة ساكنة ومتحركة تعزز
إرث القصيدة
تتدحرج دُرر القلب من ألسنة الشعراء
الذين يغنون إحتفاءً بالحب
يُبارك الشعراء المتجولون برئات ملتهبة
والصفوة تُصعق من أعلى.

قضمة سابفو و فطنة شكسبير
والصعود الصوفي لدانتي
قافية ديكنسون، التنفس الملتحي لويتمان
محفورة في العمود الفقري الجيني.

وإذا ما توقف الكوكب عن الدوران
وسادت الظلمة  الكون الحزين
ستثير أصداء الشعر القديم الضجة
وستشعل الشرارة البدائية من جديد.

أوه، أنا أجثولأكليل المسيح الشوكي
كل الطقوس القصد منها الشفاء
إبتسامة بوذا، تجهم يهوه القديم
حماسة الله البارعة.

ولكن ربة الشعر أُرسلت

 لتنقذ حقيرة مثلي
وهي تداعب أوتار حافة الحياة اليائسة
بلحنها المسكون بالأشباح.

                              إلى المتطرفين في النقد

                           (جيسي هيلمس و آخرون)

هذه الإنشودة كانت مصحوبة بجوقة نساء يثنين عضلاتهن، قدمت لأول مرة في معهد ناروبا.
                أنا قادمة من القبر، يا رجال الحرب
       حالما إعتقدتم أنكم أخضعتموني في مكان مخفي
                             أنا قادمة الآن
       ألم تحسوا بدوي الأرض تحت أقدامكم؟
       إنها تنقلب رأساً على عقب، إنها ترتفع
       إنها تقتحم وجهات نظركم، ممتلكاتكم الخاصة،
             أوه يا رجال الحرب، إيها العيابون!
             إستعدوا إيها الفتيان الكبار إستعدوا!
                           أنا قادمة الآن
              أنا قادمة بكل الأشياء تم إخفاءها
            إستعدوا، أيها الفتيان الكبار إستعدوا!
             أنا قادمة بكل الذي تريدونه مخفياً،
كل النصوص الهرمسية التي تحوي قصص نساء مثيراتٍ وخطيرات
            نساء بألسنة داعرة، عيون حادة و مخالب.
                لقد كنت أتمرن فعضلاتي قوية
             كل المروق و التبجح الذي تحتقرون
            بكل التهكم ضد شعاراتكم، وتحياتكم.
      أنا قادمة من الجحيم بكل ما قمعتموه ذات مرة.
      بكل الخيالات المكفهرة، كل الحثالة سيعودون.
              أنا الذي سأقودهم الآن ليعودوا.
   ولسوف ينبحون ويسخرون ويستشيطون غضباً ويعضون
                         أنا افتح العلبة الآن
                                بووو!


                                          حلم جاك كيرواك


إنه يتحدث بسرعة عن الشر الأنثوي لكنه يحبه. يا للنبرات المريرة للشياطين الأنثوية. إنه محشور في غرفة شتوية في نيوإنقلاند المكبوتة، ولكن من الغرابة إنها تبدو كأنها ماخور قديم في إلدورا بخفافيش داخل الجدران. هناك أطار مقشر بزخارف الزنبق  الذهبية بالداخل.  بجانبه سترة ذات أكمام أو بالأحرى " سترة أمه ذات الأكمام. يبدو كرسيه كرأس غزال متقلص، هناك بالأسفل خربشة فجة بحروف فرنسية على لوحة خشبية بحجم قدم أرنب،"est peur"  ترجمتها: هاهو الخوف، بيد إنه يشير إلى أو يبدو "كالأمل". إنه يرتجف في سترته المصنوعة من صوف الإبل، يدخن (Chesterfield) و (Old gold) أمام نار ملتهبة. يقول إنه يفضل الصيد و جمع الثمار لكن البرد قارس جداً. أين يمكننا التنقيب الآن "كل السماوات تداعت" أنني أفكر: لو كان بالإمكان أن أُولد في وقت سابق، كان بإمكاني أن أحبه، أعتني به، قريباً من وجهه، يمكنني أن أرى كرياته اللاهبة في ضوء النار المتراقص، تصميمات أصيلة معقدة موضوعة كوشم على وجه إستثنائي بدائي. يغمغم: إنه إنحراف، لحم و عظم، كبح للشهوات، جامد الوجه، "الحياة حقل مكنوس." أنا جانب من مؤامرة بوذية لأعادته إلى الحياة من جديد ليحرر كل الكائنات الحية، سأقدم له دعوة قراءة في أكاديمية المستقبل المهووس، ولكن ما الذي سأقدمه، حاولت أن أتصل بك لكن هاتفك كان مغلقاً لذا أتيت. لقد ذهب إلى مكان ما، لقد كانت عيناه مبللة وزجاجية. 


                                   الكذبة

يبدأ الفن بكذبة
أنظر إلى البصيلة الكهربائية، أغمز عينيك، الشمس في عينيك
    الإنفصال هو: إنت وأنا بالإضافة إلى ما نفعله

أريد سماءً نادرة
  نقطة إمتياز منعتقة من سوء الفهم
      يبدأ الفن بكذبة

ليس هناك ما تفقده، صعود عفوي
 للتفكير، أرسم لوحة البصيلة الكهربائية، أو حدّق إلى الشمس

كيف لك أن تزود العالم بالوقود، وتموت بعدها
 إنأ بنفسك من الدهاء
  كيف ذلك؟ يبدأ الفن بكذبة

يريد المتلقي أن يبكي،
 عندما يكون الممثلين حقيقيين و شغوفين
  أنظر إلى أضواء المسرح، ثم عقّب على العين

أنت تتأرجح في جسدٍ مصطنع
 تحاول أن تحاكي مجد العالم
  تلك هي الحكاية، بقعة حادة في العين.