الاثنين، 25 يوليو 2016

صديقتي ذات الشّعر الطويل؛ هاينريش بول


ترجمة عن الألمانية: تاج الدين محمد




إنه لأمرٌ يبعث على الإستغراب: قبل خمس دقائق بالضبط  من بداية المداهمة، إعتراني شعورٌ بعدم امان؛ إذ إنني نظرت حولي بحذرٍ وذهبت بمحازاة نهر الراين صوب محطة القطارات. ولم أكن مستغرباً عندما رأيت عربة (الجيب) المحملة بأفراد البوليس ذوو القبعات الحمراء وهي تندفع إلى داخل الحي و قد قاموا بتطويق منازل الحي ثم بدأوا بالتفتيش. كل شيء حدث بسرعة غريبة. لقد كنت أقف خارج المكان المطوق فقمت بإشعال سيجارتي بهدوء. كل شيء أُنجز بهدوء.  قلت في نفسي: كم هو منظر سيئ كمية السجائر الملقى على ارض! وبصورة لا أرادية بدأت بإجراء عملية حسابية صغيرةكم من المال ملقى هناك على ارض! وبسرعة كانت العربة ممتلئة بالذين تم إلقاء القبض عليهم. لقد كان (فرانز) من بينهم. أومأ لي من على البعد على نحوٍ يائس وكأنه يود أن يقول: هذا قدري! فتلفت أحد أفراد البوليس ليراني، لكنني غادرت. ببطء... غاية في البطء. "يا إلهي لماذا لا يأخذونني معهم!"  لم أعد راغباً في الذّهاب إلى غرفتي فواصلت طريقي صوب محطة القطارات. بضربة من عصاتي قمت بإزاحة الحجر الصَّغير من على الطريق. لقد كانت الشّمس تشرق بدفئ ومن جهة الراين كانت تهب نسمة باردة و رقيقة.
في صالة انتظار أعطيتُ النادل (فريتز) المائتي سيجارة ووضعت نقودي في جيبي الخلفي، ان ليس لدي ما أبيعه سوى علبة واحدة خاصة بي. على الرغم من إزدحام المكان تمكنت من تدبير مقعد لنفسي وطلبتُ حساءاً وبعض الخبز. لكنني لمحت (فريتز) مجدداً وهو يغمز لي من على البعد إلا إنني لم أكن راغباً في الوقوف فهرع بالمجيء إلي في عجالة وكان يقف خلفه القصير( ماوسباخ) الحمال وقد بدا كلاهما متحمساً:
ـــ "هل انت بخير يا صاح!"  قال فريتز مهمهماً وغادر وهو يهز رأسه وترك مكانه للقصير (ماوسباخ) الذي لم يكن قادراً على إلتقاط أنفاسه وقال متلعثماً:
ـــ"يجب عليك أن تغادر... لقد قاموا بتفتيش غرفتك وعثروا على الكوكايين... يا صاح!"  لقد كاد أن يختنق فقمت بالتربيت على كتفه لأهدئه و ثم أعطيته عشرين مارك. وقلت له:
ــ "امر على ما يرام." فغادر مهرولاً ولكنني  تذكرت شيئاً فجاءة  فناديته:
ــ" أسمع يا هاينه هل بإمكانك أن تجد مكاناً آمناً لمعطفي و كتبي؟ نني سأعود في غضون أربعة عشر يوماً... يمكنك أن تأخذ اشياء اخرى لنفسك."
 فهز رأسه موافقاً. أنا أعرف أنه بالإمكان اعتماد عليه. إنه أمر سيئ فكرت مجدداً ثمان ألف مارك راحت سدىً ليس هناك مكان يَحسُ فيه المرء بالأمان. كانت هناك بضع نظرات مصوبة نحوي عندما جلست مرة أخرى و أمسكت بجيبي غير مبالٍ. ولكن أصوات الحشود بدأت تحاصرني، وأدركت أنه  لم يكن هناك مكان كنت فيه لوحدي مع أفكاري مثل هذا المكان المحاصر بالجموع في صالة انتظار.
أدركت فجأءة أن عينيي تمسحان الصالة تلقائياً دون أن تدركا شيئاً محدداً  فكانتا تتوقفان في نقطة محددة وكأنهما منجدبتان  لتلك النقطة بإملاءٍ مغنطيسي. في كل مرة حين تمسح عيناي الصالة بصورة عرضية كانت هناك نقطة ما تقفان عندها عيناي لثانية  قبل أن تنزلقا بعجلة منها. وكأنني إستيقظت للتو من نوم عميق ووجهت نظري بقصد إلى تلك النقطة. على بعد ثلاث طاولات مني لمحت فتاة شابة ترتدي معطفاً فاتح اللون و قلنسوة باللون الأصفر والبني على شعرها الاسود وقد كانت تقرأ صحيفة ما. لقد كان بامكاني رؤية جزء من جسمها: كتفيها المنحنيتين قليلاً إلى امام، جزءاً قليلاً من انفها و يديها النحيلتين الثابتتين. وقد كان بإمكاني أيضاً رؤية ساقيها الجمليتين، النحيلتين أجل ... و النظيفتين. لا أعرف كم من الوقت إستغرقت في تحديقي فيها ولكن من وقت خر كان بأمكاني رؤية وجهها البيضاوي النحيل عندما تقلب الصفحة. فقامت برفع رأسها فجاة ونظرت إليَّ لبرهة بعينيها الكبيرتين الرمادتين بجدية ولا مبالاة ومن ثم إستأنفت القراءة، كانت لتلك النظرة المقتضبة وقعها علي.
أخذتُ أحدق فيها مباشرة بأناءة وقلب مرتجف حتى فرغت من قراءة الصحيفة. إنحنت بذراعيها على الطاولة وبإيماءة مترددة و غريبة أخذت رشفة من الجعة، حينها تمكنتُ من رؤية وجهها كاملاً، لقد كانت شاحبة جداً ونحيلة ذات فم صغير وأنف محدب كأنوف النبلاء... عيناها... تلكم العينان الكبيرتان . عينان شاحبتان وجادتان. كان  شعرها اسود ذا الخصل الطويلة كأنه ستارة حزن أُسدلت على كتفيها. لا أدري كم من الوقت استغرقت في التحديق فيها...عشرون دقيقة، ساعة أم أكثر من ذلك؟! ولكن في كل مرة تقع عينها في وجهي كانت تصير نظرتها أكثر أضطراباً أكثر إقتضاباً، إلا إنها لم تبدُ عليها مظاهراستياء الذي تظهرعادة في وجوه الفتيات في مثل هذه المواقف. أجل إضطراب وخوف...
ويحي لم أكن أنوي إطلاقاً أن أجعلها تضطرب أو تخاف لكنني لم إستطع عن أشيح ببصري عنها.
أخيراً 
نهضتْ على نحوٍ مفاجئ ووضعت مخلاتها على كتفها وغادرت صالة انتظار بسرعة، فقمت أنا بتعقبعها. دون أن تلتفت للخلف قامت بصعود السلالم المؤدية إلى بوابة صعود القطار. لكنني أبقيت عيني عليها، أبقيتها في مرمى نظري ولكنني فقدتها للحظة عندما كنت أشتري تذكرة الصعود للقطار. لقد كانت تتقدمني بمسافة جيدة، فما كان علي إلا ان وضعت عصاتي تحت ذراعي و هرولت بعض الشيء. كنت على وشك أن أفقدها في الممر التحتي المظلم المؤدي إلى رصيف القطار. لكنني وجدتها متكئة على أحدى بقايا مظلات الرصيف المحطمة. لم تلتفت خلفها قط.
كانت هناك رياح باردة تهب من جهة الراين صوب محطة القطار. حل المساء و كان هناك الكثير من الناس يقفون بأمتعهم، حقائب الظهر، حقائب اليد، صناديق و التوتر باد على محياهم. وإستداروا برؤوسهم على نحو مفزع صوب الإتجاه الذي تهب منه الرياح وهم يرتجفون، وأمامهم كانت قبة السماء ذات اللون ازرق الغامق تتأوه و هي مثقوبة بالتشبيك الحديدي للصالة.
لقد  كنت أعرج جيئة و ذهاباً وأحياناً أحدق في الوجوه لأتاكد من وجود الفتاة لكنها كانت دوماً هناك بساقيها الممددتين المثبتتين على بقايا الحائط المحطم شاخصة ببصرها على حفرة مسطحة وسوداء التى كان يختفي فيها قضيب السكة عن الأنظار. و أخيراً عاد القطار إلى المحطة على نحو بطيء، وعندما كنت أحدق في ماكينة القطار صعدت الفتاة القطار المتحرك وأختفت في المقصورة فأختفت من أنظاري لعدة دقائق في خضم حزم البشر الذين كانوا يتدافعون في طريقهم إلى المقصورة، لكنه لم يمضي الكثير من الوقت حتى لمحت القبعة الصفراء في عربة القطار الأخيرة. صعدت إلى الداخل و جلست في المقعد المقابل لها مباشرة فكنا بالقرب الذي كادت أن تتلامس فيه ركبنا، حينما كانت تنظر إلي في هدوء وصرامة، كانت تقطب حاجبيها فقط، عندها تمكنت من إدراك امر من عينيها الرماديتين: لقد كانت تعي أنني كنت خلفها طوال الوقت. مرة أخرى تعلقت عيناي بوجهها على نحوٍ بائس فى حين الذي كان القطار يتحرك في مساءٍ آفل. لم تنبس شفتاي بكلمة. لقد كانت الحقول تغرق و أصبحت القرى محجوبة  تدريجياُ بفعل حلول الليل. شعرت بالبرد. فقلت في نفسي: إين سأنام الليلة... متى ستهدأ اوضاع مجدداً. أوه يا ليتني أستطيع أن أواري وجهي في هذا الشعر اسود، لا شيء غير ذلك... قمت بإشعال سيجارة، عندها رمقتني بنظرة عابرة لكنها كانت نظرة متأهبة تأهباً غريبة بناحية  صندوق السجائر. بمجرد أن مددت لها الصندوق قائلاً بصوتٍ أجش:  "تفضلي!"  أحسست وكأن قلبي يقفز إلى الخارج من خلال حنجرتي، فترددت لبرهة من الثانية، وعلى الرغم من الظلام رأيت وجهها يحمر خجلاً في تلك اللحظة. فقامت بأخذ سيجارة واحدة وكانت تسحب الدخان بعمق ونهم حينما كانت تدخن:
 ــ "أنت كريمٌ جداً": لقد كان صوتها مبحوحاً و هشاً. وعندما  طرق بعدها إلى مسامعنا صوت مراقب القطار في المقصورة المجاورة كأن أن هناك  أمر قد حدث  فأرتمى كلانا على ركنه و تظاهرنا بالنوم. ولكنني على الرغم من ذلك كنت أنظرإليها من خلال جفني وهي تضحك. كنت أراقب مراقب التذاكر الذي كان معه مصباح ساطع وهو يتحقق من التذاكر. بعد لحظات سقط الضوء على وجهي مباشرة فشعرت من الطريقة تمايل الضوء أن مراقب التذاكر كان متردداً. ثم سقط الضوء على وجهها، يا لها من شاحبة، يا لحزن سطح جبينها الناصع!
ثمة إمرأة بدينة كانت تجلس بجانبي سحبت مراقب التذاكر من كم قميصه وهمست له بشيء ما في أذنه، الذي فهمته من هذا الشيء: سجائر أمريكي... لا تذاكر. فقام مراقب التذاكر بلكزي  بغضب في ضلعي. لقد كان هناك صمت يسود المقصورة فسألتها بهدوء عن وجهتها، فتفوهت بإسم مدينة ما. قمت بشراء تذكرتين إلى ذلك المكان مع دفع الغرامة. لقد كان صمت المسافرين اخرين جليدي و إذدرائي عندما غادر مراقب التذاكر. ولكن صوتها كان غريباً، دافئاً وساخراً بالطبع عندما سألتني: هل تود الذهاب إلى هناك كذلك؟
ــ أوه، يمكنني الذهاب بسهولة لدي بعض اصدقاء هناك لكنني لا أمتلك مكان أقامة دائمة هناك.
ــ" حسناً"
 هذا ما قالته فقط و إستلقت للخلف في الركن، في هذا الظلام كان بإمكاني أن أرى وجهها أحياناً، كلما تسرب ضوء إلى الداخل. لقد حل الظلام عندما ترجلنا من القطار. لقد كان المكان مظلم و دافيء. وعندما خرجنا من محطة القطارات، لقد كانت المدينة الصغيرة تغط في نوم عميق والبيوت الصغيرة كانت تتنفس بهدوءٍ وأمان تحت اشجار الوديعةسوف أدلك : قلت على نحوٍ متحمس. المكان مظلم جداً ليس بإمكانك أن تري اي شيء لكنها توقفت فجأءة أسفل أحد مصابيح الطريق ورمقتني بتحديقة طويلة بعينيها الواسعتين وقالت:
ــ "بشرط أن أعرف إلى اين سأذهب."
 لقد كان وجهها يتحرك ببطئ كأنه غطاء رأس هبت عليه رياح. كلا، لم نتبادل القبلات. لقد خرجنا من المدينة ومضينا إلى كومٍ من القش. ليس لدي أصدقاء هنا في الحقيقة فأنا غريب في هذه المدينة الساكنة كما في اماكن الأخرى. عندما أصبح البرد قارساً في الصباح زحفت بناحيتها فقامت بتغطيتي بجزءٍ من سترتها الرقيقة. هكذا دفئنا أنفسنا بأنفاسنا و دمائنا وصرنا منذ ذلك الحين سوياً حتى الآن.  

الثلاثاء، 24 مايو 2016

أَطْفالُ تَمُوز؛ هيرمان هيسه


ترجمة عن الألمانية: تاج الدين محمد




نَحنُ أطفالٌ وُلِدناْ فِيْ تَموز،
نَعشقُ عَبقَ الياسمينِ اﻷبْيضِ،
نَجوبُ الحَدائقَ المُزدانةُ بالزَّهرِ،
بِصمتٍ نَتوهُ فِيْ اﻷَحْلامِ العَصيةِ.

أَخونا زَهْرةُ الخَشْخاشُ القَرْمزيةِ،
التي تَشتعلُ عَلى نَحوِ شَراراتٍ مُتوهجةٍ
فِيْ حَقلِ السَّنابلِ عَلىْ الجُّدرانِ المُلتهبةِ،
لِتعصفُ الرِّيحُ بأَوراقِها مِنْ هُناك.

حَياتُناْ مِثلُ لَيلةٍ مِنْ لَيالِي تَموز،
تَودُ أنْ تَفرغَ مَنْ رَقْصتها وهي مُثقلةٌ بِاﻷحلامِ،
تَحلمُ وهي مُنغمسةٌ فِي أَعيادِ الحَّصادِ.
وتَحملُ فِيْ يَديها أَكاليلٌ مِنْ السَّنابلِ وزَهرةِ خَشخاشٍ قُرمزيةٍ.

الأربعاء، 2 مارس 2016


فِيْ الضَّبابِ
هيرمان هيسه
ترجمة عن اﻷلمانية: تاج الدين محمد 


 
 ِ
















إنه ﻷمرٌ غريبٌ أنْ تَتجولَ فيْ الضَّبابِ!
حَيثْ كُلَّ شُجيرةٌ و صَخرةٌ مُنزويةٌ لوحدها؛
 لا شجرةٌ تنظرُ لأخرىْ.
الكلُّ وَحيدٌ.

كان العالمُ يَضجُ باﻷصدقاءِ،
عندما كانتَ حياتِي لا تزالُ ضُوءاً.
اﻵنَ يَسودُ الضَّبابُ،
لم يعدْ هناك من أحدٌ يُرَّى.

ليس من الحكمة ـــ حقاً،
أنْ لا تُدرك الظلمةَ التي سَتبعدُ
حتماً اﻵخرينَ عنكَ بصمتٍ.

إنه ﻷمرٌ غريبٌ أنَّ تَتجولَ في الضَّباب!ِ
فالحياةُ: هَي أنَّ تكون وحيداً.
لا أحدٌ يَعرفُ الآخرَ.
كلَّ إنسانٍ وَحيد.

التجربة؛ غونتر سيورين

التجربة
غونتر سيورين
ترجمة عن اﻷلمانية: تاج الدين محمد





"اﻵن أمشي القهقرى ﻷنني لم أعد راغباً في المشي إلى اﻷمام". قال الرجل. لقد كان متوسط الطول وقد بدا ِوجهه شاحباً و منهكاً من فرط المشي القهقرى. أنفه مُحمرَّة من شدة الرياح. الرياح الغربية العنيفة التى بدت كأنها نسمة على ظهور الجموع الذاهبة معه في ذات اﻹتجاه، كانت تصفعه بعنفٍ على وجه. لقد كان يتحرك بصورة أكثر بطءاً من اﻵخرين، ولكن بجلد وعزيمة كأنه سرطانٌ يمشي القهقرى.
قال الرجل: "في يوم من اﻷيام كنت وحيداً في حديقة هادئة، كنت أسمع نقرات العصافير وأصوات الحمائم في الدغل و هي تبحث عن طعامها. لقد كنت مغموراً بالهدوء. عندما خطوتُ بضع خطواتٍ إلى الوراء، أدركت أن الطريق يتقلص عندما يمشي المرء القهقرى. عندما بدأت أمشي القهقرى ،رأيت اﻷشياء المُهملة التي تم التغاضي عن رؤيتها، حتى إنه كان بإمكاني إستراق السمع إلي الأصوات الغير مسموعة: "سيلتمسون لي العذر عندما لن أتمكن من إقناعهم بما أقول. لا تطالبوني  بأن أكون منطقياً. فاﻹكتشاف الذي قمت به لا يمكن التعبير عنه بالكلمات. أتحسبون أنني مجرد رجلٌ يرجع إلى الخلف؟؟ كلا... أنا لا أرجع إلى الخلف، أنا..."
صمت الرجل لبضع ثوانٍ وألقى بنظرةٍ واثقة على الطريق وقال: "ربما تتعجبون مما أفعله لكنني لست حالماً!"
ــ "من أنت إذاً ؟ قال الرجل المرافق الذي كان يسير إلى اﻹمام كأي شخص: "لن يفلح اﻷمر هكذا. يوم ما توقفت في مكان ما و تمكنت من سماع صوت العشب وهو ينمو هذا ما قلته أليس كذلك؟؟"
حدق الرجل المتقهقر في وجه الرجل المتقدم بوداعة وقال: "لم أفرغ من تجربتي بعد."  "هل تعتقد أنك ستفلح في تجربتك هذه؟؟" سأل الرجل المرافق.
"سؤالٌ عصيٌ على اﻹجابة." قال الرجل المتقهقر وأخذ ينظر في مكانٍ لم يدركه الرجل المرافق: " بالمناسبة فكرتي هذه ليست بجديدة كما أدركت ذلك في وقت لاحق:
"في قديم الزمان واجهت بعض الشعوب المندثرة نفس المشكلة التي تواجهنا الآن، لقد كانوا في موقفٍ كان فيه حياتهم على المحك، لكن يبدو أن هذه فكرة ساعدتهم في حل المشكلة. يمكنك أن تطلق عليها خدعة أن شئت: منذ تلك اللحظة كان النزال بين القبائل: هو أن يدير المتنازلان ظهريهما لبعضهما البعض عند النزال ويقومان بتوجيه ضربات سيوفهما في الهواء الطلق، يستمران في فعل ذلك حتى يهوي أحدهما أرضاً من شدة الإنهاك و التعب. لقد كان جيش باكمله يسقط ارضاً وهو يتنفس بصعوبة، بعدها كان الخلود لنوم عميق أمرٌ مستحق. هكذا كانت المعارك تستمر لعدة أيام ولكن دون ان تُسفك دماء. ما رأيك في ذلك؟؟"
ـــ أجل يجب أن أعترف: لقد كان اﻷمر بمثابة مُتنفس للغرائز بالنسبة للشعوب البدائية ولكن اﻷمر مختلف بالنسبة لمجتمع اليوم. رد الرجل المرافق: ما العائد الذي ستجنيه أنت من المشي القهقرى؟؟
ـــ "أود أن أعير إنتباه الناس لي." قال الرجل المتقهقر.
ـــ هذا ما سيحدث على أي حال، ولكن عازف البيانو الماهر و الذي يمشي على قدميه لمسافة خمسين ميلاً يمكنهما أيضاً إعارة إنتباه الناس.
لم يكن الرجل المتقهقر قلقاً إزاء هذه التلميحات: "لا أدري إلى ماذا تلمح ولكن أتمنى من الناس أن يفهموا ما أرمي إليه ولكن لقد كان اﻷمر مبهجاً عندما بدأت المشي القهقرى."
ــ "حسناً" قال الرجل المرافق نعم أعلم جيداً أنك ليس الشخص الوحيد الذي يؤمن بمثل هكذا افكار قبل كل شيء أنت أقترحت شيئاً عملياً لكنني أشك في إنك قد تنجح في مسعاك هذا.
بغض النظر عن النجاح أو غيره ينبغي علينا أن نحاول جميعنا ينبغي أن نحاول... قال الرجل المتقهقر.
ـــ أستميحك عذراً: هل لديك خطة جاهزة لهذه التفاهة.
حدق الرجل المتقهقر في وجه الرجل المرافق مباشرة وكانت تلك هي المرة اﻷولى التي يفعل فيها ذلك وقال مبتسماً: لقد خططتُ للأمر للحظة واحدة فقط وقد كانت لحظة شروعي في المشي القهقرى ﻷنني لم أكن متيقناً بعد من نجاح اﻷمر.
ــ لكنك اليوم لا تصطدم بأي شيء أمامك عندما تمشي القهقرى؟؟
ـــ إطلاقا!! قالها الرجل المتقهقر ولم تفارق اﻹبتسامة وجهه.

عم الصمت المكان وثم خطا الرجل المتقهقر بضع خطوات رشيقة إلى الخلف. حاول الرجل المرافق إن يقوم باﻷمر كذلك لكن اﻷمر كان متعباً للحاق بالرجل المتقهقر لأنه أصبح يمشي على نحو أسرع.

ــ "أستميحك عذراً ينبغي علي أن أسرع فأنا في عجلة من أمري لدي أمر مهم لابد من إنجازه. وداعاً!": هذا ما قاله الرجل المتقهقر و أختفي بين الجموع. أما مرافقه قد إستعصى عليه اﻷمر عندما حاول اللحاق به. فأخذ يبطء في تقهقره ويتوقف ليلتقط إنفاسه.
صعدت إلى المسامع صرخة عالية كأنها صدرت من صدعٍ ما في الطريق المسفلت. توقفت الجموع و ألقت بنظرها في إتجاه واحد. في بداية اﻷمر كانت أعداد ضئيلة من الناس تحلقت فوق الرجل الملقى على اﻷرض و أخذت الحلقة تكبر رويداً رويداً, إخترق الرجل المرافق الجموع حتى تمكن من الوصول إلى الحلقة فوجد الرجل المتقهقر مُلقى على اﻷرض كدمية سقطت من أعلى. صرخ رجلٌ ما من الجموع: "لا يمكننا إلقاء اللوم على السائق يمكنني أن أشهد بذلك، ربما كان سكراناً لقد كان يمشي القهقرى." تسلل الرجل المرافق حتى وصل إلى منتصف الدائرة و إنحني فوق رأس الرجل: هل بإمكانك رؤيتي؟؟
ــ أجل قالها الرجل دون أن يحرك ساكناً وقد وضع خده اﻹيسر على اﻷسلفت وراح يحدث السطح الرمادي: "حاول مرة أخري، عندما تكون وحيداً، في مكان ما في حديقةٍ ما أو ليلاً في مكان غير مزدحم ربما تنجح في هذا المسعى أفعلها بصورة افضل مني." عندها وصلت الشرطة إلى الدائرة: هل يمكنكم إن تصفوا لنا ما حدث. قال الشرطي مخاطباً الرجل المرافق.
ـــ لقد كان يود أن يمشي القهقرى.
قال الشرطي: "هذه هي المرة الرابعة التي تحدث فيها نفس الحادثة في هذا اليوم . ما الذي جري للبشر؟!"

الأحد، 14 فبراير 2016


سان سلفادور؛ قصة قصيرة
بيتر بيكسل
ترجمة: تاج الدين محمد

 
اشترى قلم حبرٍ سائل، ومن ثم خط توقيعه، اﻷحرف اﻷولى من إسمه، عنوانه، بعض الخطوط المتعرجة وعنوان والديه على الورقة. وعبأ قلم الحبر بأناءة مجدداً وكتب: "أشعر بالبرد هنا إني ذاهبٌ إلي أمريكا الجنوبية". توقف لبرهة من الوقت ووضع الغطاء على القلم وأغلقه بإحكام. راح يتأمل خطوط الحبر وهي تغدو داكنة عندما تجف (في حين إن الحبر يكون أسوداً عند شراءه من القرطاسية). أمسك بقلم الحبر مجدداً وخط إسمه "باول" على الورقة بأحرف كبيرة نوعاً ما. وبقى جالساً في مكانه. أزاح فيما بعد  الصحف التي كانت على المنضدة وهو يقلب صفحة عروض السينما. خطر بباله شيء ما، سحب مرمدة السيجار بناحيته، مزق الورقة ذات الخطوط المتعرجة وأخذ يعبء قلم الحبر ويفرغه مجدداً.
بالنسبة للعرض السينمائي فالوقت متاخرٌ جداً؛ أما تمارين كورال الكنيسة ستستمر حتى الساعة التاسعة، عند التاسعة والنصف ستعود هيلغراد. لقد كان في انتظار زوجته هيلغراد. لقد كانت هناك موسيقى تصدر من الراديو فقام بإغلاق جهاز الراديو.
لقد كانت هناك ورقة مطوية على منتصف المنضدة. وإسمه باول خُطَّ بأحرفٍ زرقاء داكنة "أشعر بالبرد هنا.” عندما تعود هيلغراد إلى البيت عند التاسعة والنصف، أي بعد نصف ساعة من اﻵن ستقرأ ما في الورقة وستصاب بالذعر لكنها لن تصدق إنني سأمضي إلى إمريكا الجنوبية ﻷنها ستقوم بإلقاء نظرة على اﻷقمصة في الدولاب. على أي حال لابد من حدوث شيء ما.
ستقوم باﻹتصال هاتفياً بدار سينما "لوفن"، ولكن سينما لوفن مغلقٌ أيام اﻷربعاء ستبتسم وتصاب باليأس وتتقبل اﻷمر. ربما تُبعد شعرها من على وجهها لمرات عديدة بأصبع يدها اليسرى على طول صدغيها. وتفك زرار معطفها بكل تأني.

ظل جالساً في نفس المكان وراح يفكر في شخصٍ يرسل له خطاباً. قام بقراءة ورقة إرشادات اﻹستخدام لقلم الحبر مجدداً ــ أقلبه برفق إلى اليمين ــ قرأ أيضاً النص الفرنسي، وقارن النص اﻹنجليزي  باﻷلماني و ألقى نظرة على ورقته. فكر في بالمن و زوجته هيلغراد. بقى جالساً في مكانه. عند التاسعة والنصف تماماً وصلت هيلغراد، سألته: "هل خَلد اﻷطفال إلى  النوم؟" وهي تُبعد خصل شعرها من على وجهها.
مسرح النافذة؛ قصة قصيرة
إلسا إيشنغر
ترجمة: تاج الدين محمد



إتكأت السيدة على النافذة تنظر من خلالها وكانت الرياح تهب بطرقعات خفيفة من جهة النهر دون اﻹتيان بأمر جديد. لقد كانت تحدق على نحو فضولي وبنهم لا ينتهي. حيث لم يقم أي شخص بإسداءها معروفاً بالمرور بمحازاة شقتها. إذ أنها كانت تقطن في الطابق قبل الأخير لذا كان الشارع سحيقاً إلى اﻷسفل لقد كانت اﻷصوات من اﻷسفل تصلها عبارة عن همهمات. كل شيء كان سحيقاً إلى الأسفل. عندما أرادت أن تغادر النافذة، لمحت الرجل العجوز في الشقة المقابلة لشقتها قد أضاء مصباحه. ولأن الظلام لم يُخيم بعد خَلق هذا النور في السيدة إنطباعاً غريباً كالذي تخلقه مصابيح الشارع المُضاءة في وضح النهار ،كما لو أن أحدهم أشعل شمعة على نافذة الكنيسة قبل ان يغادر الموكب الكنيسة. لزمت السيدة مكانها على النافذة.

فتح الرجل العجوز النافذة و أومأ برأسه بإتجاه السيدة. "هل يقصدني أنا؟؟" تسائلت السيدة. لقد كانت الشقة في الطابق الذي يلي شقتها فارغة أما الشقة التي بالطابق اﻷسفل كانت عبارة عن ورشة تُغلق في مثل هذا الوقت. قامت السيدة بالمقابل بهز رأسها، فأومأ الرجل برأسه مجدداً. ثم وضع الرجل يده على رأسه فأكتشف إنه لا يعتمر قبعة فأختفى بداخل الغرفة.

بعد برهة من الوقت عاد الرجل مجدداً معتمراً قبعة و مرتدياً معطفاً. ثم خلع قبعته و إبتسم. بعدها أخرج منديلاً أبيضاً من جيبه وبدأ بالتلويح به ببطء في بداية اﻷمر و من ثم بدأ بتلويحه بهمة أكثر في كل مرة. مال بجسده خارج حافة النافذة وبدا كأنه سيهوى من النافذة. خَطت السيدة خطوة إلى الوراء، ولكن أدى ذلك إلى تحفيزه أكثر فأسقط المنديل وحل الشال الملفوف على رقبته ــ شال عريض ذو ألوان زاهيةــ وتركه يرفرف وإستمر في اﻹبتسام. وعندما خطت السيدة مجدداً خطوة إلى الخلف، قذف الرجل قبعته بحركةٍ درامية وتركها تهوي إلى اﻷرض. وقام بلف الشال على رأسه فبدت كعمامة وربع ذراعيه ووضعهما على صدره وأحنى رأسه. لقد كان يغمز بعينه اليسرى كلما رفع رأسه إلى أعلى وكأن بينه وبين السيدة إتفاق مسبق على فهم سر ما. حيث إستمرت السيدة باﻹستمتاع بالعرض و فجأءة فكل ما كان بإمكانها رؤيته كان بنطاله المخملي معلقاً في الهواء، لقد كان يقف على رأسه. عندما أطل بوجه البشوش مجدداً لقد كانت السيدة قد أبلغت الشرطة.

بينما كان الرجل يظهر ويختفي من النافذتين لافاً نفسه بالشراشف لقد كانت السيدة قد تمكنت من تمييز صوت صافرة عربة البوليس على بعد ثلاثة شوارع. على من الرغم من صافرات الترام وضجيج المدينة المكتوم. ﻷن صوتها بدا متحمساً بعد الشيء لم تستطيع السيدة أن تشرح اﻷمر على نحو واضح. لقد كان الرجل يبتسم فتظهر على وجهه تجاعيد غائرة وبحركة ما يضع يده على وجهه و يزيحها فيظهر بوجه جادٍ. فبدا كأنه ينزع إبتسامته من وجه و يخفيها في تجويف يده ويقذف بها إلى الشارع. لم تُشيح السيدة ببصرها عن الرجل حتى وصلت عربة الشرطة.
 
نزلت السيدة إلى أسفل و أنفاسها تتلاحق. لقد كانت الجموع قد إحتشدت حول عربة البوليس. قفز رجال البوليس من على العربة فتبعتهم الجموع إلى سلم المبنى. عندما حاول رجال البوليس إبعادهم تذرعوا بذريعة إنهم من سكان المبنى إذ أن بعضهم تبع رجال الشرطة إلى أعلى حتى مقصدهم. بعد أن طرقت الشرطة جرس الباب دون جدوى ــ يبدو أن جرس الباب كان معطلاً ــ فقام رجال بكسر الباب بينما كانت الجموع تشاهد بإندهاش لكل ما يحدث، لقد قام رجال البوليس بكسر الباب بدقة و سرعة يحسدهم عليها أي لص. حتى إنهم لم يترددوا لثانية في الدخول إلى الصالة التى تُطل نافذتها على الفناء، فقام إثنان من أفراد الشرطة بخلع حذائيهما و التسلل إلى ركن الصالة المظلمة وفإصطدما بدولاب الملابس فلاحظا ان هناك ثمة ضوء في نهاية ممر قصير، فخطوا بإتجاه الضوء لقد السيدة تتبعهم كذلك. عندما دفعوا الباب وجدوا الرجل لا يزال واقفاً على النافذة مولياً إياهم ظهره، وقد كان ممسكاًً بمسندٍ كبير أبيض يضعه على رأسه تارة و يزيحه تارة أخرى كأنه يريد أن يخبر شخص ما إنه يود الذهاب إلى فراش النوم. ومن ثم قام بلف السجاد اﻷرضي حول كتفه فبدا كأنه فاقد للسمع لذا لم يلتفت إلى رجال الشرطة الذين كانوا قد إقتربوا منه كثيراً. فألقت السيدة بنظرة من مكانها إلى نافذتها المظلمة. لقد كانت الورشة في الطابق اﻷسفل مغلقة كما توقعت. ولكن لابد من أن الشقة بالطابق اﻷعلى قد إنتقلت إليها أسرة ما حديثاً. حيث أن هناك قضبان سرير على نافذة مضيئةٍ  هناك صبياً على السرير ممسكاً بقضيب السرير وقد كان ممسكاً بمسندٍ أيضاً و ملفوفاً ببطانية حول كتفه وكان يقفز من على السرير ملوحاً بيديه للرجل العجوز بفرح غامرٍ. يضع يده على وجهه وينزع عنها اﻹبتسامة. وبدا كأنه يخفي اﻹبتسامة في تجويف يديه لثانية ويقذف بها بكل ما أوتي من قوة في وجوه رجال الشرطة.

الجمعة، 22 يناير 2016

شيءٌ ما سيحدث - هاينريش بول، ترجمة: تاج الدين محمد


شيءٌ ما سيحدث
(قصة تضج باﻷحداث)


هاينريش بول

ترجمة عن الألمانية: تاج الدين محمد


أحد أغرب المراحل في حياتي، الفترة التي أمضيتها كموظفٍ في مصنع الفريد فونزيدل. فأنا بطبيعتي أحبذ الاستغراق في التأمل والخمول أكثر من القيام بعملٍ ما، ولكن من حين ﻵخر تجبرني مصاعبي المالية المستمرة على الانخراط في عملٍ ما. فالاستغراق في التأمل مثله مثل الخمول لا يأتيني بشيء. هأنذا أضع نفسي في ذات المأزق مجدداً؛ ففوضت أمري لوكالة التوظيف التي قامت بدورها بإرسالنا بمعية منكوبين آخرين إلى مقر مصنع فونزيدل بغية الخضوع لامتحان التوظيف. أصابني منظر المصنع من الوهلة اﻷولى بالارتياب. لقد كان مشيَّداً  بكامله من الزجاج، إذ أن نفوري من الغرف والمباني المضيئة أكثر من نفوري من العمل نفسه. ولقد أصبحت أكثر ارتياباً عندما قدموا لنا وجبة اﻹفطار في كافتريا المبنى المُضاء على نحو جميل حال حضورنا: لقد قدمت لنا النادلات الجميلات بيضاً، خبزاً محمصاً و قهوةً.. عصير البرتقال في دوارق فاخرة، أسماك الزينة تصطدم بوجوهها المغرورة بجدران اﻷحواض ذات اللون اﻷخضر الفاتح. النادلات كنَّ في غاية السعادة، بدا وكأنهن على وشك الانفجار من فرط السعادة الغامرة، ولكن قوة اﻹرادة حالت دون ذلك وهذا ما بدا لي. لذا اكتفين فقط بالهمهمة. لقد كنَّ محشوات بأغانٍ مكتومة كدجاجة لم تضع بيضتها.

لقد أدركت حالاً أن وجبة اﻹفطار كانت كذلك جزءاً من الامتحان وهذا ما لم يدركه رفقائي اﻵخرين كما يبدو. لذا كنت أمضغ الطعام بوقار بمحيا شخصٍ يعي تماماً أنه يمدُّ جسمه بعناصر ذات قيمة. لقد قمت بأمر لن تستطيع قوة في اﻷرض أن تدفعني على قيام به في المعتاد: شربت عصير البرتقال على معدة خاوية وتركت القهوة والبيض كما هو وكذلك جزءاً كبيراً من الرغيف المحمص. ونهضت وبدأت أتحرك بداخل الكافتريا جيئة وذهاباً مترعاً بالنشاط. نتيجة لذلك  كنت أول من أُدخل إلى قاعة الامتحان، حيث وُضعت أوراق الامتحان على مناضد فاخرة؛ الجدران مطلاة بظلال خضراء حتى أنها تستدعي كلمة "مُبهج" لأفواه المولعين بالتصميم الداخلي. يبدو أن القاعة خالية لكنني كنت متأكداً من إنني مُراقب. فتصرفت كما يتصرف الشخص المفعم بالنشاط حينما يدرك أنه غير مراقب؛ سحبت القلم من جيبي بفارغ الصبر، نزعت عنه الغطاء، ومن ثم جلست في أقرب منضدة مني و قمت بسحب أوراق الأسئلة ناحيتي كما يسحب زبون نزق الفاتورة في مطعم ما.

السؤال اﻷولهل تعتبر أنه لمن الصواب أن يكون للإنسان ذراعان وساقان وعينان وأذنان فحسب؟

هنا كان الحصاد اﻷول لثمرة استغراقي في التأمل، وكتبت من غير أي تردد: "حتى أن أربعة أذرع وسيقان وآذانان لن تكون كافية لطاقتي المندفعة: الجسد البشري معدٌّ على نحوٍ بائس.

السؤال الثاني: كم من الهواتف يمكنك أن تديرها في نفس الوقت؟

هنا مجدداً كانت اﻹجابة في غاية السهولة على غرار عملية حسابية في غاية البساطة: "حينما تكون هناك سبع هواتف أحس بنفاد الصبر لذا ينبغي أن تكون هناك تسع هواتف لكي أشعر أنني أعمل بكامل قدرتي”.

السؤال: كيف تقضي أوقات فراغك؟

لم أعد أعرف عبارة  "أوقات فراغ"، لقد أزلتها منذ عيد ميلادي الخامس عشر من قاموسي التداولي. لأن في البدء كان الفعل.

حصلت على الوظيفة على الرغم من التسع هواتف، كنت أحسّ أنني لم أكن أعمل بكامل قدرتي، حيث كنتُ أصرخ في سماعة الهاتف: "هيا، قم بالعمل فوراً، أو أفعل شيئاً ما! لابد أن نؤدي عملاً ما! سيُنجز العمل، أَنْجز العمل، ينبغي علينا أن نؤدي عملاً ما." ولكن، كقاعدة، كنت استخدم صيغة اﻷمر  ﻷنني احسست أن صيغة اﻷمر تعد منسجمةً مع المكان.

لقد كانت استراحات الظهيرة أكثر اﻷوقات المثيرة للإهتمام، حيث كنا نلتهم أطعمةً مغذيةً في أجواءٍ صامتة ومبهجة. كان مصنع فونزيدل يضج بأناسٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍِ مهووسين بإخبارك قصة حياتهم كما يحلو للشخصيات المشهورة القيام بذلك. لقد كانوا يعتبرون أن قصة حياتهم أكثر أهمية بالنسبة لهم من حياتهم. يمكنك فقط أن تضغط على الزر فتنهال عليك المآثر.

لقد كانت اليد اليمنى للفونزيدل رجل يدعى بروشك، لقد صعد في السلم الوظيفي وهو يعيل سبعة أطفال وزوجة مشلولة عن طريق العمل في مناوبات ليلية عندما كان طالباً. والعمل بنجاح في أربع وكالات عمل بجانب اجتيازه الامتحانات بدرجة شرف في غضون سنتين. عندما سأله مرة الصحفي قائلاً: متى تخلدون إلى النوم يا سيد بروشك؟ أجابه: النوم جريمة.

أما سكرتيرة فونزيدل كانت تعيل زوجها المشلول و أطفالها اﻷربعة عن طريق العمل في الحياكة ودراستها علم النفس والتاريخ اﻷلماني، علاوة على قيامها بتربية كلاب صيدٍ وقد كانت مشهورة كمغنية في نادٍ ليلي معروفة بلقب مغوية الرجال رقم 7.

فونزيدل نفسه كان من النوع الذي يقرر القيام بنشاطٍ ما، فور استيقاظه من النوم: "لابد أن أقوم بنشاطٍ ما" يفكر بالقيام بنشاط ما حينما يربط رباط رداء الحمام وحينما يحلق لحيته يلقي بنظرة نصر على شعيرات لحيته ورغوة الصابون وهي تُجرف بعيداً: بقايا هذه الشعيرات هي أولى ضحاياه اليومية بسبب طاقته الدافقة. هنالك الكثير من اﻷعمال الحميمة التي تبعث في أمثاله إحساساً بالرضى: صوت حفيف الماء، استعمال الورق؛ نشاط ما يُؤدَّى، خبزٌ يُلتهم، بيضٌ يُطرقع. أكثر الأمور تفاهةً تعتبر نشاطاً بالنسبة للسيد فونزيدل: الطريقة التي يعتمر بها قبعته ـ وهو يرتعش من الطاقة ـ يزرر معطفه، الطريقة التي يقبّل بها زوجته، كل شيء كان نشاطاً.

عندما وصل إلى مكتبه حيّا سكرتيرته صارخاً: "هيا ننجز عملاً ما!" أجابت السكرتيرة بصوت رنان: العمل سيُنجز. بعدها يعرج من قسم إلى آخر، ناشراً مرحه في اﻷرجاء: هيا ننجز عملاً ما! و الكل يقول: سيُنجز العمل. سأجيبه أنا كذلك باِبتسامة متألقة حينما يلقي بناظريه بإتجاه مكتبي قائلاً: العمل سيُنجز!. في غضون أسبوع عملت على زيادة عدد الهواتف في مكتبي إلى إثني عشرة هاتفاً وإلى ثلاثة  عشرة هاتفاً في اﻹسبوع الذي يليه، وفي كل صباح عندما أكون في سيارة اﻷجرة إستمتع بصياغة جمل إصدار اﻷوامر و أطارد كلمات "قم بعمل ما" بالعديد من الصيغ و التراكيبليومين كاملين كنت أردد الجملة ذاتها مراراً ﻷنني أعتقد إنها رائعة: عمل ما لابدأن يكون منجزاً. في اليومين اﻵخرين: عمل كهذا ينبغي أن يكون منجزاً. و بذلك بدأ ينتابني إحساس أنني أعمل بطاقتي القصوى عندما يكون هناك عمل ما.

في صباح ثلاثاء لم أكن بالكاد استقرَّ في مكتبي دخل علي السيد فونديزل مندفعاً إلى مكتبي صارخاً: "هيا نقوم بعمل ما" لكنني لاحظت شيئاً عصياً على التفسير في وجهه، اﻷمر الذي جعلني أتردد من الرد عليه بصوت مبتهج كما تمليه عليَّ القوانين: "سيُنجز العمل"، لابد أنني كنت صامتاً لوقت طويل، لذا رَفَع السيد فونزيدل نبرة صوته ـ و نادراً ما يفعل ذلك ـ "رُدّ، رُد، أنت تعرف القوانين!!!" فأجبته بدون حماس، كطفل أُكرِه على أن يقول: "أنا طفل نزق". لكن بمزيد من بذل الجهد تمكنت من نطق الجملة: "سيُنجز العمل". لقد كان عصياً عليَّ أن أتفوه بالجملة عندما يكون هناك عملاً حقيقياً. لقد هوى السيد أرضاً. حال سقوطه تدحرج بجانبه اﻷيمن، ملقياً بنفسه في منتصف المدخل. لقد علمتُ في حال أن السيد فونزيدل قد لقي حتفه، وأكدت ذلك عندما تحركت ببطء باتجاه المكتب  مقترباً من جسده الملقى على اﻷرض. تخطيت جسده هازاً رأسي. وخطوت ببطء على طول الرواق صوب مكتب بروشك ودخلت مكتبه دون أن أطرق الباب. كان السيد بروشك يجلس في مكتبه وكانت هناك سماعتي هاتف في كلتا يديه، وكان هناك قلماً بين أسنانه يدون به الملاحظات في مفكرته بينما كان يشغّل ماكينة خياطة تحت المنضدة. على هذا النحو كان بروشك يخيط ملابساً لأسرته.

"لقدحدث أمرٌ ما"! قلت بصوت منخفض.

بصق السيد بوشك القلم من بين أسنانه، ووضع سماعتي الهاتف لأسفل، من ثم سحب أصابع أقدامه من ماكينة الخياط على نحوٍ فاتر.

"أي أمر؟؟" قال متسائلاً...

لقد توفي السيد فونزيدل.

كلا... قال السيد بوشك.

أجل... تعال و الق نظرة!! قلت.

"كلا هذا مستحيل!!" قال بروشك وارتدى حذاءه و تبعني على طوال الرواق.

قال: "لا...” عندما كنا نقف بجانب جثمان فونزيدل. لم أناقضه في ذلك. و بعناية فائقة عدلت وضعية جسد فونزيدل وجعلته مضطجعاً على ظهره ومن ثم أغمضت عينيه وأخذت أحدق فيه مستغرقاً في التفكير.

فشعرت بشيء من الشفقة حياله، وأدركت أنني لم أمقته أبداً. لقد كان على وجهه كما لو كان طفلاً يرفض بعناد التنازل عن إيمانه ببابا نويل على الرغم من معقولية حجج أقرانه.

_"كلا... كلا!!"  ردد السيد بروشك.

"يجب أن نقوم بعمل ما"قلت ذلك بصوت خافض.

"أجل، لابد من القيام بعمل ما" قال بروشك مجيباً.

انجُز العمل: دُفن جسد السيد فونزيدل وتم تفويضي بحمل إكليلٍ من الورد الاصطناعي بجانب نعشه، ﻷنني لا أميل للاستغراق في التفكير والخمول فحسب، بل أن لي وجهاً وبنيةً يتناسبان على نحو مفرط مع البدلات السوداء. على ما يبدو أنني كنت رائعاً. حيث حصلت على عرض من شركة متخصصة في تجهيز الجنائز للالتحاق بطاقمهم كجنائزي محترف. "أنت وُلدت لتكون جنائزياً" قال مدير الشركة: ستتكفل بمنحك الزي لذلك.. وجهك رائع بكل بساطة".

وضعت مذكرة استقالتي للسيد بروشك، شارحاً: أنني لم أحس أبداً أنني كنت أعمل بكامل مقدراتي هنا. على الرغم من الثلاثة عشر هاتفاً، بعض من مواهبي كانت تضيع هدراً. حالما ما فرغت من أول ظهور لي كجنائزي محترف أدركت أنني أنتمي لهذا المكان، لقد خُلقت من أجل هذا: الوقوف مستغرقاً في التفكير بجانب النعش في مصلى الجنازة حاملاً باقة ورد متواضعة بينما تُعزف مقطوعة هاندل لارقو. المقطوعة التي لا تجد تقريباً حقها من الاحترام الذي تستحق. لقد كنت أتردد على مقهى المقابر بانتظام حيث كنت أقضي معظم اﻷوقات مع زملائي المحترفين اﻵخرين، وفي بعض اﻷحايين كنت أمشي خلف نعوش لم أكن ملزماً بالمشي خلفها، أدفع ثمن الورد من جيبي، و أمشي مع موظفي الرعاية الاجتماعية خلف نعش أحد المشردين. من وقت لآخر كنت أزور قبر السيد فونزيدل ﻷنني أدين له بكل هذا قبل كل شيء. بسببه اكتشفت مهنتي، إذ أن الاستغراق في التفكير ضروري و الخمول صار واجبي. لم يأخذ مني الكثير حتى أدركت أنني لم أزعج نفسي أبداً ﻷعرف ما الذي كان ينتجه مصنع السيد فونزيدل. أظن أنهم كانوا يصنعون الصابون.